ففَرْضُ الله، وفَرْضُ رسوله سواء، إلا أن يقوم الدليل على الفرق بين شيء من ذلك، فيسلّم للدليل الذي لا مدفع فيه.
قال: والقول بوجوبها من جهة اتباع سبيل المؤمنين واجبٌ أيضاً؛ لأنّ القول بانها غير واجبة شذوذ، أو ضرب من الشذوذ.
قال: ولعلّ جاهلاً يقول: إن زكاة الفطر لو كانت فريضة، لكُفِّرَ من قال: إنها ليست بفرض، كما لو قال في زكاة المال المفروضة، أو في الصلاة المفروضة: إنها ليست بفرض، كُفِّرَ.
فالجواب عن هذا ومثله أنّ ما ثبت فرضه من جهة الإجماع الذي يَقطَعُ العذر، كُفِّرَ دافعه؛ لأنه لا عذر له فيه. وكلّ فرض ثبت بدليل، لم يُكَفَّر صاحبه، ولكنّه يُجَهَّل، ويُخطَّأُ، فإن تمادى بعد البيان له هُجِر، وإن لم يُبئن له عُذِر بالتأويل، ألا ترى أنه قد قام الدليل الواضح على تحريم المسكر، ولسنا نُكَفَّر من قال بتحليله، وقد قام الدليل على تحريم نكاح المتعة، ونكاح السّرّ، والصلاة بغير قراءة، وبيع الدرهم بالدرهمين يدأ بيد … إلى أشياء يطول ذكرها من فرائض الصلاة، والزكاة، والحجّ، وسائر الأحكام، ولسنا نُكَفِّر من قال بتحليل شيء من ذلك؟ لأن الدليل في ذلك يوجب العمل، ولا يَقطع العذر، والأمر في هذا واضح لمن فهم. انتهى كلام ابن عبد البرّ - رحمه الله - (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ ابن عبد البرّ - رحمه الله - كلام نفيسٌ جدًّا.
والحاصل أن الحقّ ما عليه جمهور أهل العلم، من أن صدقة الفطر فريضة، كفرض زكاة المال، وغيرها من فرائض الله تعالى، ولا ينافي هذا تفاوت درجات فرضيّتها فيما بينها، فإن الفرائض تختلف، فمنها ما يُكفّر جاحده، ومنها ما ليس كذلك، كما بيّنه رحمه الله تعالى آنفاً، ولكن يجمع الكلّ كونها مما فرضه الله تعالى، يجب اعتقاده، والعمل به. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): لم يُقَيَّد في الحديث افتراض زكاة الفطر باليسار،