وقد أجاد الكلام في ذلك القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ رحمه الله تعالى في كتابه النافع "العواصم من القواصم"، فأطال النفس فيه، ومما قاله فيه خلال كلامه الطويل: أما نكتة الكلام، وهو القول في استلحاق معاوية زيادًا، وأخذ الناس عليه في ذلك، فأيّ أخذ عليه فيه، إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأيُّ عار على أبي سُفيان في أن يُليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهليّة؟ فمعلوم أن سُميّة لم تكن لأبي سفيان كما لم تكن وليدةُ زَمْعَة لعُتبة، لكن كان لعتبة منازع تعيّن القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن ها هنا نكتةً اختَلَف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استلحق أخًا يقول: هو ابن أبي، ولم يكن له منازع، بل كان وحده، فقال مالك: يرث، ولا يثبتُ النسب، وقال الشافعيّ في أحد قوليه: يثبت النسب، ويأخذ المال، هذا إذا كان الْمُقَرّ به غير معروف النسب.
قال: فالحارث بن كَلَدَة لم يَدّع زيادًا، ولا كان إليه منسوبًا، وإنما كان ابن أمته وُلد على فراشه، أي في داره، فكلُّ من ادّعاه فهو له، إلا أن يُعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مَغْمَز، بل فَعَل فيه الحقّ على مذهب مالك.
فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة - رضي الله عنهم -؟.
قلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يَلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك، وعظّمه. انتهى كلامه باختصار (١)، وهو دفاع نفيسٌ عن هذا الصحابيّ الجليل معاوية - رضي الله عنه -، وهكذا ينبغي أن ندافع عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فإنهم إن أصابوا فيما اجتهدوا فيه فلهم أجران، وإن أخطئوا، فخطؤهم مغفور، ولهم أجر في اجتهادهم - رضي الله عنهم -.
ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في هذا الموضوع، حيث قال خلال كلامه الطويل:
وكذلك استلحاق معاوية - رضي الله عنه - زياد ابن أبيه المولود على فراش الحارث بن كَلَدَة لكون أبي سفيان كان يقول: إنه من نطفته، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "من
(١) "العواصم من القواصم" ص ١٨٤، ١٨٦ بتحقيق محبّ الدين الخطيب.