للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال في "الفتح": قال الخطّابيّ وغيره: وهذا مثلٌ ضربه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- للبخيل والمتصدّق، فشبّههما برجلين أراد كلّ واحد منهما أن يلبس درعًا، يستتر به من سلاح عدوّه، فصبّها على رأسه ليلبسها، والدرعُ أول ما تقع على الصدر، والثديين إلى أن يُدخل الإنسان يديه في كمّيها، فجَعَلَ المنفقَ كمن لبس درعًا سابغةً، فاستَرسَلَت عليه، حتّى سترت جميع بدنه، وهو معنى قوله: "حتّى تعفوَ أثره": أي: تستر جميع بدنه. وجَعَلَ البخيلَ كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، كلّما أراد لبسها، اجتمعت في عنقه، فلزمت ترقوتَهُ، وهذا معنى قوله: "قلَصَت": أي: تضامّت، واجتمعت.

والمراد أنّ الجواد إذا هَمَّ بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسّعت في الإنفاق -أي: وطاوعت يداه بالعطاء-. والبخيل إذا حدّث نفسه بالصدقة شحّت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩]. انتهى.

وقال الطيبيّ: أوقع المتصدّق مقابل البخيل، والمقابل الحقيقيّ السخيّ، إيذانًا بأنّ السخاء ما أَمَرَ به الشرع، وندب إليه من الإنفاق، لا ما يتعاناه المبذّرون، وخصّ المشبّه بهما بلبس الجبّتين من الحديد، إعلامًا بأنّ الشّحّ، والقبض من جبلّة الإنسان، وخلقته، وأنّ السخاء من عطاء الله تعالى، وتوفيقه، يمنحه من يشاء من عباده المفلحين، وخصّ اليد بالذكر؛ لأنّ السخيّ، والبخيل يوصفان ببسط اليد وقبضها، فإذا أريد المبالغة في البخل قيل: مغلولة يده إلى عنقه، وثديه، وتراقيه. وإنما عدل عن الغُلّ إلى الدرع لتصوّر معنى الانبساط والتقلّص. والأسلوبُ من التشبيه المفرّق، شبّه السخيّ الموفّق؛ إذا قصد التصدّق، يسهل عليه، ويطاوعه قلبه بمن عليه الدرع، ويده تحت الدرع، فإذا أراد أن يُخرجها منها، وينزعها يسهل عليه، والبخيل على عكسه. انتهى.

وقال المنذريّ: شبّه -صلى الله عليه وسلم- نِعَمَ الله تعالى، ورزقه بالْجُنَّة، وفي رواية بالْجُبَّة، فالمنفق كلّما أنفق اتّسعت عليه النعم، وسَبَغَت، ووَفَرَت حتّى تستره سَتْرًا كاملًا شاملًا، والبخيل كلّما أراد أن يُنفق منعه الشحّ، والحرص، وخوف النقص، فهو بمنعه يطلب أن يزيد ما عنده، وأن تتّسع عليه النعم، فلا تتّسع،