للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(الثالث): أنّ الفقير والمسكين سواء، لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وإلى هذا ذهب الشافعيّ في أحد قوليه، وابن القاسم، وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.

قال القرطبيّ: ظاهر اللفظ يدلّ على أن المسكين غير الفقير، وأنهما صنفان، إلا أنّ أحد الصنفين، أشدّ حاجة من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما صنفًا واحدًا، ولا حجّة في قول من احتجّ بقوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}؛ لأنه يَحْتَمِل أن تكون مستأجرة لهم؛ كما يقال: هذه دار فلان إذا كان ساكنها، وإن كانت لغيره، وقد قال الله تعالى في وصف أهل النار: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)} الحج: ٢١]، فأضافها إليهم، وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: ٥]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من باع عبدًا، وله مالٌ"، وهو كثير جدًّا يُضاف الشيء إليه، وليس له، ومنه قولهم: باب الدار، وجُلُّ الدابّة، وسَرْجُ الفرس، وشبهه، ويجوز أن يُسمَّوا مساكين على جهة الرحمة والاستعطاف؛ كما يقال لمن امتُحِنَ بنكبة، أو دُفع إلى بليّة: مسكين، وفي الحديث: "مساكين أهل النار"، وقال الشاعر [من الطويل]:

مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ … عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ

وأمّا ما تأوّلوه من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمّ أحيني مسكينًا" الحديث، رواه أنس، فليس كذلك؛ وإنما المعنى هاهنا التواضع لله الذي لا جبروت فيه، ولا نخوَة، ولا كِبْر، ولا بَطَرَ، ولا تكبّر، ولا أَشَرَ، ولقد أحسن أبو العَتَاهية، حيث قال [من البسيط]:

إِذَا أَرَدت شَرِيفَ الْقَوْمِ كُلِّهِمِ … فَانْظُرْ إِلَى مَلِكٍ فِي زِيِّ مِسْكِينِ

ذَاكَ الَّذِي عَظُمَتْ فِي اللهِ رَغْبَتُهُ … وَذَاكَ يَصْلُحُ لِلدُّنْيَا وَللدِّينِ

وليس بالسائل؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد كره السؤال، ونهى عنه، وقال في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق: "دعوها، فإنها جبّارة" (١). وأما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٧٣]، فلا يمتنع أن يكون لهم شيء. والله أعلم.


(١) لم أر من أخرجه.