للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يُثبت في قوله {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} مسألة فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألة، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر:

لَا يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا … وَلَا تَرَى الضبَّ بِهَا يَنْحَجِرْ

أي ليس فيها أرنبٌ، فيَفْزَع لهولها، ولا ضبّ، فينحجر، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانحجار عن الضبّ.

وقال أبو بكر: تأويل الآية: لا يسألون البتّة، فيُخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف، فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرجَى خيره؛ أي لا خير عنده البتّة، فيُرجى، وأنشد قول امرئ القيس:

وَصُمٌّ صِلَابٌ مَا يَقِينَ مِنَ الْوَجَى … كَانَّ مَكَانَ الرِّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَأْلِ (١)

أي ليس بهنّ وجى، فيشتكين من أجله، وقال الأعشى:

لَا يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلَا وَصَبٍ … وَلَا يَعَضُّ عنَى شُرْسوفِهِ الصَّفَرُ (٢)

معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ، فيغمزها.

وقال الفرّاء قريبًا منه، فإنه قال: نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال، كما تقول في الكلام: قَلّما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه.

وجعل أبو بكر الآية عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وإن التقدير: لا يسالون الناس إلحافًا، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: ٨١] أي والبرد. انتهى كلام السمين رحمه الله (٣).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره السمين رحمه الله من كلام أئمة اللغة تحقيقٌ حسن، وخلاصته ترجيح كون معنى الآية نفي الإلحاح والسؤال، فلا سؤال، ولا إلحاح، وهذا هو المعنى الموافق لتفسيره -صلى الله عليه وسلم- المسكين بالمتعفّف،


(١) يصف حوافر الفرس، والوجى: أن تشتكي الحوافر من الحفا، والرأل: فرخ النعامة.
(٢) "الوصب": المرض، والشرسوف: واحد الشراسيف، وهي الأضلاع، والصَّفَرُ: الحيّة.
(٣) راجع: "الدر المصون في علوم الكتاب المكنون" ٢/ ٦٢٢ - ٦٢٧.