(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم قبلة الصائم:
(اعلم): أنهم اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب:
[أحدهما]: إباحتها مطلقاً، وأنه لا كراهة فيها، قال ابن المنذر -رَحِمَهُ اللهُ-: رَوَينا الرخصة فيها عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وابن عباس، وعائشة، وبه قال عطاءٌ، والشعبيّ، والحسن، وأحمد، وإسحاق، ورَوَى ابن أبي شيبة عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لا بأس بالقبلة للصائم، وعن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه -: لا بأس بها ما لم يَعْدُ ذلك، وعن سعيد بن جبير: لا بأس بها، صمانها لبريد سَوْء، وعن مسروق: ما أبالي قبّلتها، أو قبّلت يدي، واختاره ابن عبد البرّ، ورجحه، واستَدَلَّ بما في "الموطأ" عن عطاء بن يسار، أن رجلاً قبّل امرأته، وهو صائم في رمضان، فوَجَد من ذلك وَجْداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة - رضي الله عنها -، فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبّل، وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك، فزاده ذلك شرًّا وقال: لسنا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِلّ الله لرسوله ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة، فوجدت عندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مالِ هذه المرأة؟ "، فأخبرته أم سلمة، فقال:"ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " فقالت: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها، فأخبرته، فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الله يحل لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال:"والله إني لأتقاكم لله، وأعلمكم بحدوده".
قال ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لم يقل للمرأة: هل زوجك شيخٌ، أو شابٌّ؟ ولو ورد الشرع بالفرق بينهما لما سكت عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه المبين عن الله مراده. انتهى.
قال الحافظ وليّ الدين -رَحِمَهُ اللهُ-: والقصة المذكورة رواها أحمد في "مسنده" عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار، أن الأنصاريّ أخبر عطاءً أنه قَبَّل امرأته، وهو صائم، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، فاتَّصَل بذلك، وخرج عن أن يكون مرسلًا، والله أعلم.
ورَجَّحه أيضًا أبو بكر ابن العربيّ، فقال: والذي يُعَوَّل عليه جواز ذلك، إلا أن يعلم من نفسه أنه لا يَسْلَم من مفسد، فلا يُلِم الشريعة، ولكن لِيَلُم نفسه الأمارة بالسوء المسترسلة على المخاوف.