ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البر الصيام في السفر"، ومقابلُ البرّ الإثم، وإذا كان آثمًا بصومه لم يجزئه، وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحُكِي عن عمر، وابن عمر، وأبي هريرة، والزهريّ، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم.
واحتَجُّوا بقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: ١٨٤] الآية، قالوا: ظاهره فعليه عدّة، أو فالواجب عدّة، وتأوّله الجمهور بأن التقدير: فأفطر فعدّة.
ومقابل هذا القول قول مَن قال: إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك، أو المشقة الشديدة، حكاه الطبريّ عن قوم.
وذهب أكثر العلماء، ومنهم: مالكٌ، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قَوِيَ عليه، ولم يشقّ عليه.
وقال كثير منهم: الفطر أفضل؛ عملًا بالرخصة، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق.
وقال آخرون: هو مخيّر مطلقًا، وقال آخرون: أفضلهما أيسرهما؛ لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}[البقرة: ١٨٥] الآية، فإن كان الفطر أيسر عليه، فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر، كمن يَسْهُل عليه حينئذ، ويشقّ عليه قضاؤه بعد ذلك، فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن المنذر.
قال الحافظ: والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتدّ عليه الصوم، وتضرر به، وكذلك من ظُنّ به الإعراض عن قبول الرخصة، كما تقدم نظيره في المسح على الخفين، وفي تعجيل الإفطار.
وقد رَوَى أحمد من طريق أبي طعمة، قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله، كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على مَن رَغِب عن الرخصة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رَغِبَ عن سنتي، فليس مني"، وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبريّ، من طريق مجاهد، قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكْفُوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك،