للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ويمكن أن يقال: أذن الله تعالى له في صيامه، فلما قَدِم المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن الحامل لهم على صومه؟ فقالوا ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنها -: إنه يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى عليه السلام شكرًا، فنحن نصومه، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"؛ فحينئذ صامه بالمدينة، وأمر بصيامه؛ أي: أوجب صيامه، وأكّد أمره؛ حتى كانوا يُصوِّمون الصغار، فالتزمه - صلى الله عليه وسلم -، وألزمه أصحابه إلى أن فُرِض شهر رمضان، ونُسِخ صوم يوم عاشوراء، فقال إذ ذاك: "إن الله لم يكتب عليكم صيام هذا اليوم"، ثم خَيَّر في صومه وفطره، وأبقى عليه الفضيلة بقوله: "وأنا صائم"، كما جاء في حديث معاوية - رضي الله عنه -.

وعلى هذا: فلم يصم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء اقتداء باليهود؛ فإنه كان يصوم قبل قدومه عليهم، وقبل علمه بحالهم، لكن الذي حدث له عند ذلك إلزامه والتزامه؛ استئلافًا لليهود، واستدراجًا لهم، كما كانت الحكمة في استقباله قبلتهم، وكان هذا الوقت هو الوقت الذي كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنْهَ عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (١).

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه كون صومه - صلى الله عليه وسلم - لشوراء استئلافًا لليهود فيه نظر؛ إذ كان يصومه قبل ذلك، كما أشار إليه قبل، وأيضًا فقد علّل في صومه بأنه اتباع لموسى عليه السلام، حيث قال: "نحن أولى بموسى منكم".

وأما دعواه كون استقبال القبلة؛ للاستئلاف أيضًا، فغير صحيح؛ لأنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان وهو بمكة يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر استمرّ عليه، وليس ذلك؛ لاستئلافهم، حتى نُسخ ذلك بالكعبة، وقد تقدّم تحقيق هذا في بابه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ) وفي رواية البخاريّ: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه في الجاهليّة": أي قبل أن يهاجر إلى المدينة (فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَامَهُ) أي صام - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء (وَأَمَرَ) الناس (بِصِيَامِهِ) وفي نسخة: "بصومه"، قال في "الفتح" ما حاصله: يستفاد من هذا تعيين الوقت الذي وقع


(١) "المفهم" ٣/ ١٩٠ - ١٩٢.