الأبد" عن غير واحد من الصحابة، سوى عبد الله بن عمرو، كما تقدّم.
ويردّه أيضًا حديث أبي موسى المتقدّم، وكلّ ذلك يدلّ على أن هذا الحكم ليس خاصًّا بابن عمرو، بل هو عامّ لجميع المسلمين، وأما إقراره لحمزة على سرد الصوم، فلا حجة فيه، كما سبق.
(الثالث): أن معنى "لا صام" أنه لا يجد من مشقّته ما يجدها غيره، فيكون خبراً لا دعاء.
وتعقّبه الطيبيّ بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه عن صيام الدهر كله، ثم حثّه على صوم داود، والأَولى أن يكون خبراً عن أنه لم يمتثل أمر الشارع، أو دعاء كما تقدّم. وأجابوا عن حديث أبي موسى المتقدم ذكره - وهو: "من صام الدهر، ضُيِّقت عليه جهنّم" - وهو حديث صحيح، بأن معناه ضُيّقت عليه، فلا يدخلها، فعلى هذا تكون "على" بمعنى "عن"؛ أي ضيقت عنه، وهذا التأويل حكاه الأثرم عن مسدّد، وحكى ردّه عن أحمد، كما سبق.
وقال ابن خزيمة: سألت المزنيّ عن هذا الحديث؟ فقال: يشبه أن يكون معناه ضُيّقت عنه، فلا يدخلها، ولا يشبه أن يكون على ظاهره؛ لأن من ازداد عملاً وطاعةً ازداد عند الله رفعة، وعنه كرامة.
ورجّح هذا التأويلَ جماعةٌ، منهم الغزاليّ، فقالوا: له مناسبة من جهة أن الصائم لما ضيّق على نفسه مسالك الشهوات بالصوم ضيّق الله عليه النار، فلا يبقى له فيها مكان؛ لأنه ضيّق طرقها بالعبادة.
وتُعقّب بأنه ليس كلّ عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله تقرّباً، بل ربّ عمل صالح إذا ازداد منه ازداد بعداً، كالصلاة في الأوقات المكروهة، وأيضاً لو كان المراد ما ذكروه لقال: ضيّقت عنه، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها.
قال ابن حزم بعد ذكر التأويل ما لفظه: هذه لُكْنة وكَذِبٌ، أما اللكنة فإنه لو أراد هذا لقال: ضيّقت عنه، ولم يقل: عليه. وأما الكذب فإنما أورده رواته كلهم على التشديد، والنهي عن صومه. انتهى (١).