وقال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: وقوله: "وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله" يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يفعل الفعل من أفعال الحج بحسب ما ينزل عليه به الوحي، فيفهمه هو، ويبئنه للناس بفعله، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عنِّي مناسككم"، وكانوا كما قال جابر - رضي الله عنه -: إذا عَمِل شيئًا اقتدوا به فيه، وعملوه على نحو ما عمل. انتهى.
(وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ) أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - إذا عَمِل شيئًا من أعمال الحجّ اقتدوا به فيه، وعملوه على نحو ما عمل، وفيه ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من شدّة الحرص على الاقتداء بالنبيَّ - صلى الله عليه وسلم -.
(فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ) أي: رفع صوته بكلمة التوحيد، يعني قوله:"لا شريك لك"، وقوله: ("لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ") تقدّم شرحه في "باب التلبية"، وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت الجاهلية، تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك، فكانوا يقولون:"لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، كما سبق ذلك في "باب التلبية" أيضًا.
(وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِه، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ) يعني: أنهم لم يلتزموا هذه التلبية الخاضَة التي لبَّى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ فهموا أنها ليست مُتعيِّنَة، فترك - صلى الله عليه وسلم - كل أحد على ما تيسر له من ألفاظها، ومع هذا فلا بدَّ أن يأتي الملبِّي بما يقال عليه تلبية لسانًا، ولا يجزئ منها التحميد، ولا التكبير، ولا غيره، عند مالك، قاله القرطبيّ رحمهُ اللهُ (١).
وفي رواية أحمد، وابن الجارود:"ولبّى الناس، والناس يزيدون ذا
المعارج، ونحوه من الكلام، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئًا" (وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ) المذكورة، قال القاضي عياض رحمهُ اللهُ: فيه إشارة إلى ما رُوي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر، كما رُوي في ذلك عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يزيد:"لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك، ومرغوبًا إليك"، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء