[التوبة: ٤١]، ثم بعد ذلك رُخّص لأهل الأعذار، ونزل قوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}[التوبة: ١٢٢]، رُوي ذلك عن ابن عبّاس وغيره، وحينئذ، فيَحتمل جعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأعمال بعد الإيمان الجهاد معنيين:
[أحدهما]: أن يقال: إنما كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين، فكان حينئذ أفضل الأعمال بعد الإيمان، وقرينًا له، فلما نزلت الرخصة، وصار الجهاد فرض كفاية تأخّر عن فرض العين.
وقد اختلَفَ ابنُ عمر وعبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضي الله عنهم - في عدّ الجهاد من فرائض الإسلام، فعدّه عبد الله بن عمرو منها بعد الحجّ، وأنكر ذلك ابن عمر عليه، وقال: فرائضه تنتهي إلى الحجّ، وقد رَوَى اختلافهما في ذلك أبو عُبيدة في "كتاب الناسخ والمنسوخ"، وغيره، وعدّ حُذيفة بن اليمان الجهاد من سهام الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأضافهما إلى مباني الإسلام الخمس، وجعلها ثمانية سهام، وكأنه جعل الشهادتين سهمين.
[والثاني]: - وهو أشبه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سُئل عن أفضل الأعمال، فتارة يذكر الإيمان بالله ورسوله لدخوله في مسمّى الأعمال، كما سبق تقريره، وتارة يذكر أعمال الجوارح؛ لأن المتبادر إلى الفهم عند ذكر الأعمال مع الإطلاق أعمالُ الجوارح دون عمل القلب واللسان، فكان إذا تبيّن له أن ذلك هو مراد السائل ذكر الصلاة له، كما ذكرها في حديث ابن مسعود هذا، فإن الصلاة أفضل أعمال الجوارح، وحيث أجاب بذكر الإيمان، أو بذكر الصلاة، فإنما مقصوده التمثيل بأفضل مباني الإسلام، ومراده المباني بجملتها، فإن المباني الخمس كالشيء الواحد، وكلّ من دخل في الإسلام بالإقرار بالشهادتين، أو بالصلاة على رأي من يرى فعلها إسلامًا، فإنه يؤمر ببقيّة المباني، ويُلزم بذلك، ويقاتَلُ على تركه.
وفي حديث خرّجه الإمام أحمد أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"أربعٌ فرضهنّ الله في الإسلام، فمن أتى بثلاث لَمْ يُغنين عنه شيئًا حتى يأتي بهنّ جميعًا: الصلاة، والزكاة، وصيام رمضان، وحجّ البيت"(١).
(١) سقط من النسخة "وحج البيت"، وهو موجود في "مسند أحمد" ٤/ ٢٠٠ - ٢٠١، وفي سنده ابن لهيعة.