وظهر لي في الجمع بين نصوص هذا الباب ما أنا ذاكره بحمد الله وفضله، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله، فنقول:
لا ريب أن أفضل الأعمال ما افترضه الله على عباده كما ذكرنا الدليل عليه في أول الكلام على هذا الحديث، وأولى الفرائض الواجبة على العباد، وأفضلها الإيمان بالله ورسوله تصديقًا بالقلب، ونُطقًا باللسان، وهو النطق بالشهادتين، وبذلك بُعث النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأُمر بالقتال عليه، ثم بعد ذلك الإتيان ببقيّة مباني الإسلام الخمس التي بُني عليها، وهي الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجّ، وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر من يبعثه يدعو إلى الإسلام أن يدعو أَوّلًا إلى الشهادتين، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الصيام، ثم إلى الزكاة، كما أمر بذلك معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لَمّا أرسله إلى اليمن، وكان يُعلّم من يسأله عن الإسلام مبانيه الخمس، كما في حديث سؤال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَام - له عن الإسلام، وكما في حديث طلحة - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - علّم الأعرابيّ الذي سأله عن الإسلام المباني.
فإذا تقرّر هذا، فقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لَمّا سُئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال:"إيمان بالله ورسوله"، فهذا وجهٌ ظاهرٌ لا إشكال فيه، فإن الإيمان بالله ورسوله أفضل الأعمال مطلقًا، ويُسمّى الشهادتين مع التصديق بهما عَمَلًا لما في ذلك من عمل القلب واللسان.
وقوله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "ثم الجهاد في سبيل الله"، وفي حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه -: "والجهاد" بالواو يشهد له أن الله قرن بين الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله في مواضع، كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[الحجرات: ١٥]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: ١٠، ١١].
فالإيمان بالله ورسوله التصديق بهما في القلب مع الإقرار بذلك باللسان، والجهاد هو دعاء الناس إلى ذلك بالسيف والسنان بعد دعائهم بالحجة والبيان، ولهذا يُشرع الدعاء إلى الإسلام قبل القتال.
وقد قيل: إن الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين على المسلمين كلّهم، لا يَسَعُ أحدًا التخلّف عنه، كما قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}