وسبب اختلافِهم في ذلك اختلافُهم في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة -منهم الأخفش، والكسائيّ، والفرّاء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد، وابن السّكِّيت، وثعلب، وابن قتيبة، وغيرهم -أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدوّ، فهو الحصر، وبهذا قطع النحّاس.
وأثبت بعضهم أن أُحصِرَ، وحُصِرَ بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرّف، قال تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية [البقرة: ٢٧٣]، وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدوّ إياهم. وأما مالك، والشافعيّ، وأحمد، ومن تبعهم، فحجتهم في أن لا إحصار إلا بالعدوّ اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصّة الحديبية، حين صُدّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن البيت، فسمّى الله صدّ العدوّ إحصارًا.
وحجة الآخرين التمسك بعوم قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}. انتهى من "الفتح" بتصرّف (١).
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله مورد النصّ في قضية الحديبية إنما هو في الإحصار بالعدوّ، فلو أحصره مرض، منعه من المضيّ في نسك، لم يتحلّل عند الجمهور، وبه قال مالك، والشافعيّ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: الإحصار بالمرض كالإحصار بالعدوّ، قالوا: وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}[البقرة: ١٩٦] إنما ورد في إحصار المرض؛ لأن أهل اللغة قالوا: يقال: أحصره المرض، وحصره العدوّ، فاستعمال الرباعيّ في الآية يدلّ على إرادة المرض، وما نقلوه عن أهل اللغة حكاه في "المشارق" عن أبي عبيد، وابن قتيبة، وقال القاضي إسماعيل المالكيّ: إنه الظاهر، وحكاه في "الصحاح" عن ابن السكّيت، والأخفش، قال: وقال أبو عمرو الشيبانيّ: حصرني الشيء، وأحصرني: حبسني. انتهى. فجعلهما لغتين بمعنى واحد. وقال في "النهاية": يقال: أحصره المرض، أو السلطان: إذا منعه عن مقصده، فهو محصر، وحصره: إذا حبسه، فهو محصور.
وحكى ابن عبد البرّ التفصيل المتقدّم عن الخليل، وأكثر أهل اللغة، ثم