والحاصل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، وليس مفردًا بأحدهما، وأصحّ الأدلة على ذلك وأقواها حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند البخاريّ، حيث قال: سمعت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بوادي العقيق يقول:"أتاني الليلة آتٍ من ربّي، فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةً في حجة"، وكان ذلك أول ما خرج من المدينة، فنزل بذي الحليفة، فهو -صلى الله عليه وسلم- امتثل أمر ربه من ذلك الوقت، فلم يزل قارنًا حتى أحلّ من إحراميه يوم النحر، وأما في خلال الطريق فكان يلبي على الأحوال الثلاثة التي ذُكرت في هذه الأحاديث المختلفة.
وَيحْتَمِل أن يريد من قال: أفرد الحجّ إفراده بعد أداء العمرة، وتوجهه إلى منى، فلعله سمعه يقول: لبيك حجًّا، فأخبر بذلك، فبهذا تتّفق الأحاديث دون أيّ تعارض، ودنه الحمد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ بَكْرُ) بن عبد الله الْمُزَنيّ (فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ) أي بحديث أنس -رضي الله عنه- (ابْنَ عُمَرَ) بن الخطاب -رضي الله عنهما- (فَقَالَ) ابن عمر (لَبَّى) النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (بِالْحَجِّ وَحْدَهُ) أي دون أن يقرنه بالعمرة، قد عرفت أن هذا يُحْمَل على أن هذا صدر منه -صلى الله عليه وسلم- من مكة حينما توجه إلى منى، فلا تغفل، قال بكر:(فَلَقِيتُ أَنَسًا) -رضي الله عنه- (فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ) إنه -صلى الله عليه وسلم- لبّى بالحجّ وحده (فَقَالَ أَنَسٌ) -رضي الله عنه- (مَا) نافيةٌ (تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا) أي لا نضبط ما نراه، ونسمعه، وهذا من أنس -رضي الله عنه- إنكار على من أنكر عليه ما حدّث به عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:"لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا") أي قارنًا بينهما، قد عرفت أن هذا هو الصحيح في إهلاله -صلى الله عليه وسلم- من أول الأمر بعد أن جاءه الملك، فقال له:"قل: عمرةٌ في حجة"، رواه البخاريّ في "صحيحه"، وما عدا ذلك من الأحاديث، كحديث ابن عمر هذا يؤوّل بما مرّ بيانه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس -رضي الله عنه- هذا متّفقٌ عليه.