ابن عمر حين أنكرته، قال العلماء: هذا يدلّ على أنه اشتبه عليه، أو نسي، أو شكّ، ولهذا سكت عن الإنكار على عائشة، ومراجعتها بالكلام، فهذا الذي ذكرته هو الصواب الذي يتعيّن المصير إليه.
وأما القاضي عياض، فقال: ذَكَر أنس أن العمرة الرابعة كانت مع حجته، فيدلّ على أنه كان قارنًا، قال: وقد ردّه كثير من الصحابة، قال: وقد قلنا: إن الصحيح أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردًا، وهذا يردّ قول أنس، وردّت عائشة قول ابن عمر، قال: فحصل أن الصحيح ثلاث عُمَر، قال: ولا يُعلم للنبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمار، إلَّا ما ذكرناه، قال: واعتمد مالك في "الموطأ" على أنهن ثلاث عُمَر. انتهى كلام القاضي.
وتعقّبه النوويّ، فقال: وهو قول ضعيفٌ، بل باطلٌ، والصواب أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر أربع عُمَر، كما صرح به ابن عمر، وأنس، وجزما الرواية به، فلا يجوز ردّ روايتهما بغير جازم، وأما قوله: إن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في حجة الوداع مفردًا، لا قارنًا، فليس كما قال، بل الصواب أن النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردًا في أول إحرامه، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارنًا، ولا بد من هذا التأويل، قال العلماء: وانما اعتمر النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه العُمَر في ذي القعدة؛ لفضيلة هذا الشهر، ولمخالفة الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا يرونه من أفجر الفجور، كما سبق، ففعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرات في هذه الأشهر؛ ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه. انتهى كلام النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١).
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ - تحقيق حسنٌ، إلَّا قوله: إنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردًا في أول إحرامه إلخ، فقد قدّمنا أن هذا خلاف الصحيح، بل الصواب أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قارنًا من أول ما أنشأ الإحرام؛ كما بيّنه حديث عمر - رضي الله عنه - في قصّة إتيان الملك له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق، ولما أخرجه أحمد، وابن ماجة، بإسناد صحيح، وصححه ابن حبّان، عن أنس - رضي الله عنه - قال: إنا عند ثَفِنات ناقة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المسجد، فلما استوت به، قال:"لبيك بحجة وعمرة معًا"، وذلك في حجة الوداع. انتهى لفظ ابن حبّان.