قال القاضي إسماعيل: ظاهر القران يدلّ على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة، لا سائر دور مكة، وقال الأبهريّ: لم يَختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فُتحت عنوةً، واختلفوا هل مَنّ بها على أهلها؛ لعظم حرمتها، أو أُقِرّت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها، والكراء، والراجح عند من قال: إنها فُتحت عنوةً أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَنّ بها على أهلها، فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك. ذكره السهيليّ وغيره.
وليس الاختلاف في ذلك ناشئًا عن هذه المسألة، فقد اختَلَف أهل التأويل في المراد بقوله هنا:{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} هل هو الحرم كله، أو مكان الصلاة فقط؟ واختلفوا أيضًا هل المراد بقوله:{سُوءٍ} في الأمن والاحترام، أو فيما هو أعمّ من ذلك؟ وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضًا.
قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم، لما جاز حفر بئر، ولا قبر، ولا التغوط، ولا البول، ولا إلقاء الجيف والنتن، قال: ولا نعلم عالمًا مَنَع من ذلك، ولا كَرِه لحائض، ولا لجُنب دخول الحرم، ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة، وحوانيتها، ولا يقول بذلك أحدٌ، والله أعلم.
قال الحافظ: والقول بأن المراد بالمسجد الحرام: الحرم كله وَرَدَ عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة. انتهى (١).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وبيان أدلّتهم أن أرجح الأقوال قول الشافعيّ، ومن تبعه، وهو قول البخاريّ أن دور مكة مِلْكٌ لأهلها، يجوز توريثها، وبيعها، وإجارتها؛ لوضوح علّته، كما علمته آنفًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.