للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

القول أحد بعد الصحابة، إلا الشافعيّ في قوله القديم، والله أعلم. انتهى (١).

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: هذا الحديث نصٌّ في تحريم صيد المدينة، وقطع شجرها، وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة وأصحابه في إباحة ذلك، وانكارهم على من قال بتحريم المدينة؛ بناءً منهم على أصلهم في ردِّهم أخبار الآحاد فيما تعم به البلوى، وقد تكلَّمنا معهم في هذا الأصل في باب أحداث الوضوء، ولو سلِّم لهم ذلك جدلًا، فتحريم المدينة قد انتشر عند أهل المدينة والمحدِّثين، وناقلي الأخبار، حتى صار ذلك معلومًا عندهم، بحيث لا يشكّون فيه، والذي قصَّر بأبي حنيفة وأصحابه في ذلك قلَّة اشتغالهم بالحديث، ونقْل الأخبار، وإلا فما الفرق بين الأحاديث الشاهدة بتحريم مكة، وبين الشاهدة بتحريم المدينة في الشهرة، ولو بحثوا عنها، وأمعنوا فيه حصل لهم منها مثل الحاصل لهم من أحاديث مكة.

والجمهور على أن صيدها لا جزاء فيه؛ لعدم النص على ذلك، ولم يتحققوا جامعًا بين الصَّيدين، فلم يُلحقوه به.

وقد قال بوجوب الجزاء فيه: ابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى، وابن نافع من أصحابنا -يعني المالكيّة- واختَلَف قول الشافعيّ في ذلك.

فأما الشجر فيحرم قطعه منها أيضًا، وهو محمول على مثل ما حُمِل عليه شجر مكة، وهو ما لم يُعالج إنباتَه الآدميّ، ويدلّ على صحة ذلك أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل المسجد، وقد ذكر ابن نافع، عن مالك أنه قال: إنما نُهي عن قطع شجر المدينة؛ لئلا تتوحش، وليبقى فيها شجرها؛ ليستأنس، ويستظل به مَن هاجر إليها.

قال القرطبيّ: وعلى هذا فلا يُقطع منها نخل ولا غيره، وحينئذ تزول خصوصية ذكر العضاه، وهو شجر البادية، الذي ينبت لا بصنع آدميّ، والأول أولى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (٢)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن أرجح المذاهب مذهب من قال بتحريم صيد المدينة، وشجرها؛ لوضوح الأدلة على ذلك، وأن من فعل


(١) "شرح النوويّ" ٩/ ١٣٤.
(٢) "المفهم" ٣/ ٤٨١.