للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

رجعوا إلى بلادهم، وقال لهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلّموهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلي"، وهذا الأعرابي المذكور في حديث مالك كان -واللَّه أعلم- ممن بايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على المقام بدار الهجرة، فمن هنا أبى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من إقاله بيعته.

قال: وفي إباء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من إقالة البيعة دليل على أن من العقود عقودًا إلى المرء عقدها، وليس له حلُّها، ولا نقضها، وذلك أن من عقد عقدًا يجب عقده، ولا يحل نقضه، لم يجز له أن ينقضه، ولم يحلّ له فسخه، وإن كان الأمر كان إليه في العقد، فليس إليه ذلك في النقض، وليس كل ما للإنسان عقده له فسخه، ولم يكن لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقيله بيعته؛ لأن الهجرة كانت مفترضة يومئذ، كما لم يكن له أن يُبيح له شيئًا حظرته عليه الشريعة، إذا دخل فيها، ولزمته أحكامها إلا بوحي من اللَّه، وأما مَن بعده فليس ذلك حكمه بوجه من الوجوه؛ لأن الوحي بعده -صلى اللَّه عليه وسلم- قد انقطع.

قال: وفي هذا الحديث بيان فضل المدينة، وأنها بقعة مباركة، لا يستوطنها إلا المرضيّ من الناس، قال أبو عمر: وهذا عندي إنما كان بالنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منذ نزلها، وقد كانت قبله كسائر ديار الكفر، ولما تُوُفّي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقي فضل قبره، ومسجده، والمدينة لا ينكر فضلها.

قال: وأما قوله: "تنفي خبثها، وينصع طيبها"، فمعناه: أنها تنفي حُثالة الناس، ورُذالتهم، ولا يبقى فيها إلا الطيب الذي اختاره اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- لصحبة نبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخبث رُذالة الحديد، ووسخه الذي لا يثبت عند النار.

وأما قوله: "وينصع" فإنه يعني: يبقى ويثبت، ويظهر، وأصل النُّصُوع في الألوان البياض، يقال: أبيض ناصعٌ، ويَقَقٌ، كما يقال: أحمر قانئ، وأسود حالك، وأصفر فاقع، والمراد بهذه الكلمات الثبوت والصحة، والناصع: الخالص السالم، قال النابغة الذبيانيّ [من الطويل]:

أَتَاكَ بِقَوْلٍ هَلْهَلِ النَّسْجِ كَاذِبٍ … وَلَمْ يَأْتِ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ نَاصِعُ

أي: خالصٍ سالمٍ من الاختلاف، وأما الخبث فلا يثبت، وما لا يثبت فليس ظهوره بظهور، وشبّه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة في ذلك الوقت بالكير، والنار الذي لا يُبقي على عمله إلا طيبه، ويدفع الخبث، وكذلك كانت المدينة لا