للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك"، فكان على الناس فرضًا أن ينتقلوا إلى المدينة؛ إذ لم يكن للإسلام دار ذلك الوقت غيرها، ويَدَعُوا دار الكفر، وعلى هذا -واللَّه أعلم- كانت بيعة هذا الأعرابيّ المذكور في هذا الحديث عن الإسلام، والهجرة، فلمّا لَحِقه من الْوَعْك ما لحقه، تشاءم بالمدينة، وخرج عنها منصرفًا إلى وطنه من أهل الكفر، ولم يكن ممن رسخ الإيمان في قلبه، وربما كان من جنس الأعراب الذين قال اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: ٩٧].

ولما فُتِحَت مكة لم يبايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا على الهجرة، وإنما كانت البيعة على الإقامة بدار الهجرة قبل أن يفتح اللَّه على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة، وكان المعنى في البيعة على الهجرة: الإقامة بدار الهجرة، وهي المدينة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته، حتى يصرفهم فيما يحتاج إليه، من غزو الكفار، وحفظ المدينة، وسائر ما يحتاج إليه، وكان خروجهم راجعين إلى دار أعرابيتهم حرامًا عليهم؛ لأنهم كانوا يكونون بذلك مرتدين إلى الأعرابية من الهجرة، ومن فعل ذلك كان ملعونًا على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ألا ترى إلى حديث شعبة، والثوريّ، عن الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرّة، عن الحارث بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا به، والواشمة، والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيّا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم القيامة" (١).

ورُوي عن عقبة بن عامر الجهنيّ، قال: بلغني قدوم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، وأنا في غنيمة لي، فرفضتها، ثم أتيته، فقلت: جئت أبايعك، فقال: "بيعة أعرابية، أو بيعة هجرة؟ "، قلت: بيعة هجرة، قال: فبايعته، وأقمت.

قال أبو عمر: ففي قول عقبة في هذا الحديث: فبايعته، وأقمت دليل على أن البيعة على الهجرة توجب الإقامة بالمدينة، وأن البيعة الأعرابية تخالفها، لا توجب الإقامة بالمدينة على أهلها، ويدلك على ذلك أن مالك بن الحويرث وغيره، من الأعراب، بايعوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقاموا عنده أيامًا، ثم


(١) حديث صحيح، أخرجه ابن خزيمة، والحاكم.