ويَحْتَمِل أن تكون المزية لِمَا اتَّفَقَ من طول إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمسجد المدينة، بخلاف مسجد قباء، فما أقام به إلا أيامًا قلائل، وكفى بهذا مزية، من غير حاجة إلى ما تكلفه القرطبيّ.
والحقّ أن كلًّا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}[التوبة: ١٠٨]، يؤيِّد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء".
وعلى هذا فالسر في جوابه - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رَفْعُ توهم أن ذلك خاصّ بمسجد قباء، والله تعالى أعلم.
قال الداوديّ وغيره: ليس هذا اختلافًا؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيليّ، وزاد غيره أن قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضي أنه مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة، والله تعالى أعلم. انتهى (١).
وقال العلامة الشوكانيّ - رحمه الله - في "تفسيره": وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه -، قال: اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألاه عن ذلك؟ فقال:"هو هذا المسجد"، لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:"وفي ذلك خير كثير"، يعني مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والزبير بن بكار في "أخبار المدينة"، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والحاكم في "الكنى"، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي نحوه.