والظاهر - كما قال الحافظ - أن مراد ابن عباس - رضي الله عنهما - بالخير: النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبالأمة: أخصّاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحًا ما آثر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - غيره، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مع كونه أخشى لله تعالى، وأعلمهم به يُكثر التزويج لمصلحة تبليغ الأحكام التي لا يطّلع عليها الرجال، ولإظهار المعجزة البالغة في خرق العادة؛ لكونه كان لا يجد ما يَشبع به من القوت غالبًا، وإن وجد كان يُؤْثِر بأكثره، ويصوم كثيرًا، ويواصل، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، ولا يُطاق ذلك إلا مع قوّة البدن، وقوّةُ البدن تابعة لما يقوم به من استعمال المقوّيات، من مأكول ومشروب، وهي عنده - صلى الله عليه وسلم - نادرة، أو معدومة.
وذكر في "الشفا" أن العرب تمدح بكثرة النكاح؛ لدلالته على الرجوليّة. . . إلى أن قال: ولم تشغله كثرتهنّ عن عبادة ربّه، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهنّ، وقيامه بحقوقهنّ، واكتسابه لهنّ، وهدايته إياهنّ، وكأنه أراد بالتحصين قصر طرفهنّ عليه، فلا يتطلّعن إلى غيره، بخلاف العزبة، فإن العفيفة تتطلّع بالطبع البشريّ إلى التزويج، وذلك هو الوصف اللائق بهنّ.
والذي تحصّل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره - صلى الله عليه وسلم - من النساء عشرة أوجه، تقدّمت الإشارة إلى بعضها:
(أحدها): أن يكثر من يُشاهد أحواله الباطنة، فينتفي عنه ما يظنّ به المشركون من أنه ساحر، أو غير ذلك.
(ثانيها): لتتشرّف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
(ثالثها): للزيادة في تألفهم لذلك.
(رابعها): للزيادة في التكليف، حيث كلّف أن لا يَشغلَه ما حُبّب إليه منهنّ عن المبالغة في التبليغ.
(خامسها): لتكثر عشيرته من جهة نسائه، فتزداد أعوانه على من يُحاربه.
(سادسها): نقل الأحكام الشرعيّة التي لا يطّلع عليها الرجال؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يُخفَى مثله.
(سابعها): الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوّج أم حبيبة، وأبوها إذ ذاك يُعاديه، وصفيّة بعد قتل أبيها، وعمّها، وزوجها، فلو لم يكن