وقد قدّمنا أن عطاء المذكور من رجال مسلم، وأن شعيبًا المذكور قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يخطئ، وأن حديث ابن عمر هذا يعتضد بما ثبت عن ابن عمر في "الصحيح" من أنه قال: وإن كنت طلقتها ثلاثًا، فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك.
ولا سيما على قول الحاكم: إنه مرفوع، ويعتضد بالحديث المذكور قبله؛ لتحليفه رُكانة، وبحديث الحسن بن علي المتقدم عند البيهقيّ والطبرانيّ، وبحديث سهل بن سعد الساعديّ الثابت في "الصحيح" في لعان عويمر وزوجه، ولا سيما رواية:"فأنفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يعني الثلاث المجتمعة، وببقية الأحاديث المتقدمة.
وقد قدمنا أن كثرة طرقها، واختلاف مَنازعها، يدل على أن لها أصلًا، وأن بعضها يشدّ بعضًا، فيصلح المجموع للاحتجاج، ولا سيما أن بعضها صححه بعض العلماء، وحسّنه بعضهم، كحديث رُكانة المتقدم، وقد عرفت أن حديث داود بن الحصين لا دليل فيه على تقدير ثبوته، فإذا حققت أن المرويّ باللفظ الصريح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ليس يدل إلا على وقوع الثلاث مجتمعة، فاعلم أن كتاب الله ليس فيه شيء يدل على عدم وقوع الثلاث دفعة واحدةً؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الثلاث المجتمعة، وبالأحرى آية تصرح بعدم لزومها.
وقد قدّمنا عن النوويّ وغيره أن العلماء استدلوا على وقوع الثلاث دفعة بقوله تعالى:{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق: ١] قالوا: معناه: أن المطلِّق قد يحدث له ندم، فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه إلا رجعيًّا فلا يندم.
وقد قدمنا ما ثبت عن ابن عباس من أنها تلزم مجتمعةً، وأن ذلك داخل في معنى الآية، وهو واضح جدًّا، فاتضح أنه ليس في كتاب الله، ولا في صريح قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أو فعله ما يدل على عدم وقوع الثلاث.
أما من جهة صناعة علم الحديث والأصول، فما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس المتقدم له حكم الرفع؛ لأن قول الصحابيّ: كان يفعل كذا على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - له حكم الرفع عند جمهور المحدثين والأصوليين.