قال النوويّ - رحمه الله -: قال العلماء: وسبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب، وصيانته ممن يخدعه، قال الإمام، أبو عبد الله المازريّ:
[فإن قيل]: المنع من بيع الحاضر للبادي سببه الرفق بأهل البلد، واحتُمِل فيه غبن البادي، والمنع من التلقي أن لا يُغبَن البادي، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أتى سيدُهُ السوقَ، فهو بالخيار".
[فالجواب]: أن الشرع ينظر في مثل هذه المسائل، إلى مصلحة الناس، والمصلحة تقتضي أن يُنظَر للجماعة على الواحد، لا للواحد على الواحد، فلما كان البادي، إذا باع بنفسه، انتفع جميع أهل السوق، واشتروا رخيصًا، فانتفع به جميع سكان البلد، نظر الشرع لأهل البلد على البادي، ولما كان في التلقي، إنما ينتفع المتلقي خاصة، وهو واحد في قُبالة واحد، لم يكن في إباحة التلقي مصلحة، لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية، وهي لحوق الضرر بأهل السوق، في انفراد المتلقي عنهم بالرخص، وقطع الموادّ عنهم، وهم أكثر من المتلقي، فنظر الشرع لهم عليه، فلا تناقض بين المسألتين، بل هما متفقتان في الحكمة، والمصلحة، والله أعلم. انتهى (١).
وقال القرطبيّ - رحمه الله -: واختلف في وجه النهي عن التلقّي، فقيل: ذلك لحقّ الله تعالى، وعلى هذا، فيُفسخ البيع أبدًا، وقال به بعض أصحابنا، وهذا إنما يليق بأصول أهل الظاهر. والجمهور: على أنه لحق الآدميّ؛ لِمَا يدخل عليه من الضرر، ثم اختلفوا فيمن يرجع إليه هذا الضرر، فقال الشافعيّ: هو البائع، فيدخل عليه ضرر الغبن، وعلى هذا، فلو وقع لم يُفسخ، ويكون صاحبه بالخيار، وعلى هذا يدلّ ظاهر الحديث، فإنه قال فيه:"إذا أتى سيّده السوق، فهو بالخيار". وقال مالك: بل هم أهل السوق بما يدخل عليهم من غلاء السلع، ومقصود الشرع الرفقُ بأهل الحاضرة، كما قد قال:"دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض"، وكأن مالكًا لم تبلغه هذه الزيادة، أو لم تثبت عنده أنها من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قول مالك فلا يُفسخ، ولكن يخيّر أهل السوق، فإن لم يكن سوقٌ، فأهل المصر بالخيار، وهل يدخل المتلقّي معه، أو