قال ابن دقيق العيد: وهذا أقوى متمسَّك به، في الردّ على هذا المقام.
وقال ابن السمعانيّ: متى ثبتٌ الخبر صار أصلًا من الأصول، ولا يُحتاج إلى عرضه على أصل آخر؛ لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما؛ لأنه رد للخبر بالقياس، وهو مردود باتفاق، فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسألة، تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة؛ لأنَّ السنة الثابتة مقدمة عليها، والله تعالى أعلم.
وعلى تقدير التنزل، فلا نسلّم أنه مخالف لقياس الأصول؛ لأنَّ الذي ادَّعَوه عليه من المخالفة، بيّنوها بأوجه:
[أحدهما]: أن المعلوم من الأصول، أن ضمان المثليات بالمثل، والمتقومات بالقيمة، وههنا إن كان اللبن مثليأ، فليضمن باللبن، وإن كان متقومًا، فليضمن بأحد النقدين، وقد وقع هنا مضمونًا بالتمر، فخالف الأصل.
[والجواب]: منع الحصر، فإن الحرّ يُضمن في ديته بالإبل، وليست مثلًا، ولا قيمةً، وأيضًا فضمان المثل ليس مطّردًا، فقد يُضمن المثل بالقيمة، إذا تعذرت المماثلة، كمن أتلف شاة لبونًا، كان عليه قيمتها، ولا يجعل بإزاء لبنها لبنًا آخر؛ لتعذر المماثلة.
[ثانيها]: أن القواعد تقتضي، أن يكون المضمون مُقَدَّر الضمان بقدر التالف، وذلك مختلف، وقد قدّرنا هنا بمقدار واحد، وهو الصاع، فخرج عن القياس.
[والجواب]: منع التعميم في المضمونات؛ كالموضِحة، فأرشها مُقَدَّر، مع اختلافها بالكبر والصغر، والغرةِ مقدرة في الجنين، مع اختلافه، والحكمة في ذلك، أن كلّ ما يقع فيه التنازع، فليقدّر بشيء معين؛ لقطع التشاجر، وتُقدَّم هذه المصلحة على تلك القاعدة، فإن اللبن الحادث بعد العقد، اختلط باللبن الموجود وقت العقد، فلم يُعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، ولو عُرف مقداره، فوُكل إلى تقديرهما، أو تقدير أحدهما، لأفضى إلى النزاع والخصام، فقطع الشارع النزاع والخصام، وقدّره بحد لا يتعديانه؛ فصلًا للخصومة، وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن، فإنه كان قوتهم إذ ذاك؛ كاللبن وهو مكيل كاللبن، ومقتات، فاشتركا في كون كلّ واحد منهما