للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وغيرهم. انتهى (١).

وقال ابن قُدامة - رحمه الله -: المفلس هو الذي لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "أتدرون من المفلس؟ " قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له، ولا متاع، قال: "ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات، أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، ولطم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أُخِذ من سيئاتهم، فردّ عليه، ثم صُك له صَكّ إلى النار"، أخرجه مسلم بمعناه، فقولهم ذلك إخبار عن حقيقة المفلس، وقول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس ذلك المفلس"، تَجَوُّز لم يُرِد به نفي الحقيقة، بل أراد أن فلس الآخرة أشدّ وأعظم، بحيث يصير مفلس الدنيا، بالنسبة إليه كالغنيّ، ونحو هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الشديد بالصُّرَعَة، ولكن الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب"، متّفق عليه، وقولُهُ: "ليس السابق من سبق بعيرُهُ، وإنما السابق من غُفر له" (٢)، وقوله: "ليس الغِنَى عن كثرة الغرض، إنما الغني غنى النفس"، متفق عليه، ومنه قول الشاعر [من الخفيف]:

لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ … إِنَّما الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

وإنما سُمِّي هذا مُفلسًا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عُرف الفقهاء: من دينه أكثر من ماله، وخَرْجُهُ أكثر من دَخْلِه، وسَمَّوه مُفلسًا، وإن كان ذا مال؛ لأن ماله مُسْتَحَقُّ الصرف في جهة دَينه، فكأنه معدوم، وقد دل عليه تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - مُفْلِسَ الآخرة، فإنه أخبر أن له حسناتٍ، أمثالَ الجبال، لكنها كانت دون ما عليه، فقُسمت بين الغرماء، وبقي لا شيء له، ويجوز أن يكون سُمِّي بذلك لِمَا يؤول إليه، من عدم ماله


(١) "المفهم" ٤/ ٤٣٠ - ٤٣١.
(٢) هذا ليس حديثًا مرفوعًا، بل هو من كلام عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، قال في خطبته يوم عرفة: "ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له"، قال في "الفتح": أخذه من قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سمع وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا، وصوتًا للإبل: "أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البرّ ليس بالإيضاع".