هي كالشحم مع اللحم، فإنه عنه يكون، ولا يلزم من تحريم بيعها، والحكم بنجاستها، ألّا يجوز الانتفاع بها، لما قدّمناه. وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك، فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات؛ كالزيت، والسمن، والعسل، وغير ذلك، مع الحكم بنجاسته. فقال: يعمل من الزيت النجس الصابون، ويُستصبح به في غير المساجد، ويُعلف العسلُ النحلَ. ويطعم النجس الماشية، وإلى نحو ذلك ذهب الشافعيّ، والثوريّ، وأبو حنيفة. ورُوي عن عليّ وابن عمر -رضي الله عنهما-، وقد فَرَّق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة، فقال: لا ينتفع بالشحوم؛ لأنها نجسة لعينها، بخلاف ما ينجس بما وقع فيه، فإنه ينتفع به؛ لأن نجاسته ليست لِعَينه، بل عارضة.
قال القرطبيّ: وهذا الفرق ليس بصحيح، فإن النجاسة حكم شرعيّ والأحكام الشرعية ليست صفات للأعيان، بل هي راجعة لقول الشارع: افعلوا، أو لا تفعلوا. كما قد حققناه في أصول الفقه. ولو سلّمنا لقلنا: إن النجاسة العينية قد اختلطت مع العارضة ولا مميّز، فحكمهما سواء.
فان قيل: فكيف يجوز أن يقال بجواز الانتفاع بشيء من ذلك، وفي الحديث الصحيح:"إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، والانتفاع بها قربان لها فلا يجوز؟! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعًا.
فالجواب: القول بموجب ما ذكر، فإن القرب المنهيّ عنه إنما هو الأكل؛ بدليل قوله في أول الحديث:"إن كان جامدًا فألقوها، وكلوه"، وفي بعض طرقه:"وكلوا سمنكم"، ثم قال بعد هذا:"وإن كان مائعًا فلا تقربوه"؛ أي: بأكل، وأيضًا: فقد قررنا في أصول الفقه أن الشرع إذا نهى عن شيء، وأوقع نهيه عليه، فإنما يعني بذلك النهي عما يراد ذلك الشيء له، وإن سكت عنه، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة: ٢٢٢]؛ أي بالوطء، وكقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النساء: ٢٣]؛ أي وطؤهن ومقدماته، وكذلك العرف إذا قال العربيّ: لا تقرب الماء؛ أي: لا تشربه، والخبز؛ أي: لا تأكله، وهذا معلوم. وأما النهي عن مباشرة النجاسات: فإنما يُحْمَل على