للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

العرب تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دَينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تُرْبي: أي تزيد في الدين، وهذا هو الذي نسخه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، لَمّا قال: "ألا إن كلّ ربا موضوع، وإن أول ربا أضعُهُ ربانا، ربا عباس"، متّفقٌ عليه. وهذا كما تقول العرب: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع عليٌّ، وإنما الكريم يوسف ابن نبيّ الله، ولا عالم في البلد إلا زيد، ومثله كثير، يعنون بذلك نفي الأكبر والأكمل، لا نفي الأصل، وهذا واضح، ومما يقرب فيه هذا التأويل جدًّا رواية من روى: "لا ربا فيما كان يدًا بيد" أي: لا ربا كثيرٌ، أو عظيمٌ، كما قال: "لا صلاة لجار المسجد، إلا في المسجد" (١) أي: لا صلاة كاملة.

قال: ويظهر لي وجهٌ آخر، وهو حسنٌ، وذلك أن دلالة حديث ابن عبّاس على نفي ربا الفضل دلالة بالمفهوم، ودلالة إثباته دلالة بالمنطوق، ودلالة المنطوق راجحة على دلالة المفهوم، باتّفاق النُّظّار. انتهى كلام القرطبيّ ببعض تصرّف (٢)، وهو بحث مفيد نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه اللهُ: أما حديث أسامة: "لا ربا إلا في النسيئة" فقد قال قائلون بأنه منسوخ بهذه الأحاديث، وقد أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره، وهذا يدل على نسخه. وتأوله آخرون تأويلات:

[أحدها]: أنه محمول على غير الربويات، وهو كبيع الدَّين بالدَّين مؤجلًا، بأن يكون له عنده ثوب موصوف، فيبيعه بعبد موصوف مؤجلًا، فإن باعه به حالًا جاز.

[الثاني]: أنه محمول على الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها من حيث التفاضل، بل يجوز تفاضلها يدًا بيد.

[الثالث]: أنه مجمل، وحديث عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدريّ، وغيرهما مُبَيَّن، فوجب العمل بالمبيَّن، وتنزيل المجمل عليه، هذا جواب الشافعىّ رحمه اللهُ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله (٣).


(١) حديث ضعيف، تقدّم الكلام عليه في "كتاب الصلاة".
(٢) "المفهم" ٤/ ٤٨٤ - ٤٨٥.
(٣) "شرح النوويّ" ١١/ ٢٥ - ٢٦.