قال: وقد اختُلِف في حكمها، فقيل: مواقعتها حرام؛ لأنها توقع في الحرام، وقيل: مكروهة، والورع تركها، وقيل: لا يقال فيها واحد منهما، والصواب الثاني؛ لأن الشرع قد أخرجها من قسم الحرام، فلا توصف به، وهي مما يرتاب فيه، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْ ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك"، وهذا هو الورع، وقد قال فيها بعض الناس: إنها حلال ويُتَورَّع عنها.
قال القرطبيّ: وليست بعبارة صحيحة؛ لأن أقل مراتب الحلال أن يستوي فعله وتركه، فيكون مباحًا، وما كان كذلك لم يُتَصَّور فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين، فإنَّه إن ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا، وحينئذ يكون تركه راجحًا على فعله، وهو المكروه، أو فعله راجحًا على تركه، وهو المندوب.
[فإن قيل]: فهذا يؤدِّي إلى رفع معلوم من الشرع، وهو: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده، وأكثر أصحابه -رضي الله عنهم- كانوا يزهدون في المباح، فإنَّهم رَفَضُوا التنعم بأكل الطيبات من الأطعمة، وبلباس اللَّين الفاخر من الملابس، وبسكنى المباني الأنيقة من المساكن، ولا شك في إباحة هذه الأمور، ومع هذا فآثروا أكل الخشن، ولباس الخشن، وسكنى الطين واللَّبن، وكل هذا معلوم من حالهم، منقول من سيرتهم.
فالجواب أن تركهم التنعم بالمباح لا بدّ له من موجب شرعيّ أوجب ترجيح الترك على الفعل، وحينئذ يلزم عليه خروج المباح عن كونه مباحًا، فإن حقيقته التساوي من غير رجحان، فلم يزهدوا في مباح، بل في أمير تَرْكُهُ خيرٌ من فعله شرعًا، وهذه حقيقة المكروه. فإذًا إنما زهدوا في مكروه، غير أن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو، كما كره لحوم السِّباع، وتارة يكرهه لما يؤدي إليه، كما يكره القبلة للصَّائم، فإنها تُكره لِمَا يُخاف منها من فساد الصوم، وتركهم للتنعم من هذا القبيل، فإنَّه انكشف لهم من عاقبته ما خافوا على نفوسهم منه مفاسد إما في الحال، كالرُّكون إلى الدنيا، وإما في المال كالحساب عليه، والمطالبة بالشكر، وغير ذلك ممَّا ذُكر في كتب الزهد، وعلى