"أفقرناك ظهره"، و"أعرتك ظهره"، وغير ذلك مما تقدم، قال: ويؤيده أن القصة جرت كلها على وجه التفضل والرفق بجابر، ويؤيده أيضًا قول جابر:"هو لك، قال: لا، بل بعنيه"، فلم يقبل منه إلا بثمن؛ رفقًا به، وسبق الإسماعيلي إلى نحو ذلك، وزعم أن النكتة في ذكر البيع؛ أنه -صلى الله عليه وسلم-، أراد أن يَبَرّ جابرًا على وجه، لا يحصل لغيره طمع في مثله، فبايعه في جمله، على اسم البيع؛ ليتوفر عليه بِرّه، ويبقى البعير قائمًا على ملكه، فيكون ذلك أهنأ لمعروفه، قال: وعلى هذا المعنى أَمْرُهُ بلالًا، أن يزيده على الثمن، زيادة مبهمة في الظاهر، فإنه قصد بذلك زيادة الإحسان إليه، من غير أن يحصل لغيره تأميل في نظير ذلك.
وتُعُقّب بأنه لو كان المعنى ما ذكر، لكان الحال باقيًا في التأميل المذكور، عند ردّه عليه البعير المذكور، والثمن معًا.
وأجيب بأن حالة السفر غالبًا تقتضي قلّة الشيء، بخلاف حالة الحضر، فلا مبالاة عند التوسعة من طمع الآمل.
قال الحافظ: وأقوى هذه الوجوه في نظري، ما تقدم نقله عن الإسماعيلي، من أنه وَعْدٌ حَلَّ محل الشرط.
وأبدى السُّهَيليّ في قصة جابر -رضي الله عنه- مناسبة لطيفة، غير ما ذكره الإسماعيليّ، مُلَخَّصها: أنه -صلى الله عليه وسلم-، لَمّا أخبر جابرًا بعد قتل أبيه بأُحد، أن الله أحياه، وقال: ما تشتهي فأزيدك؟، أكد -صلى الله عليه وسلم- الخبر بما يشتهيه، فاشترى منه الجمل، وهو مطيّته بثمن معلوم، ثم وَفّر عليه الجمل والثمن، وزاده على الثمن، كما اشترى الله من المؤمنين أنفسهم، بثمن هو الجنة، ثم رَدَّ عليهم أنفسهم، وزادهم، كما قال الله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس: ٢٦] انتهى ملخّصًا من "الفتح"(١)، وهو بحث نفيس جدًّا، وحاصله ترجيح الاشتراط لجابر -رضي الله عنه- ليركب جمله إلى المدينة، كما صنع ذلك إمام أهل هذه الصناعة البخاريّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.