يُفْعَل به أكثر مما ظَلم فيه، فإن الدعاء ليس مقطوعًا بإجابته، فإذا صدر عن المظلوم بحكم حرقة مظلمته، وشدَّة مَوْجِدته لم نقل: إنه صدر عنه محرَّم، وغاية ذلك: أن يكون تَرَك الأولى؛ لأنه منتصر، ولأنه لم يصبر، ولذلك قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "واتّق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، متّفقٌ عليه، ويدلّ على جواز ذلك ما رُوي: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلًا خَلَق الثياب، فأمره أن يلبس ثوبيه، فلمّا لبسهما قال:"ما له؟ -ضرب الله عنقه- أليس هذا خيرًا"(١)، وفي كتاب أبي داود: عن سعيد بن غزوان، عن أبيه أنه مرَّ بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك، وهو يصلي، فقال:"قطع صلاتنا، قطع الله أثره"، قال: فما قمت عليهما إلى يومي هذا -يعني: رجليه-؛ فدلَّ هذا على أن الدَّعاء المذكور ليس محرَّمًا.
قال الجامع عفا الله عنه: استدلال القرطبيّ على جواز الدعاء على الظالم بأكثر مما ظَلَم غير صحيح، أما الحديث الأول فليس فيه دعاء على الظالم، وإنما هو دعاء لرجل مسلم أن ينال الشهادة، وأما الحديث الثاني فضعيف؛ لأن في سنده سعيد بن غزوان، وأبوه مجهولان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(١) حديث صحيح، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (١٢/ ٢٣٦) فقال: (٥٤١٨) - أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاريّ، أخبرنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أنمار، قال: فبينما أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فقلت: يا رسول الله هَلُمّ إلى الظل، قال: فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال جابر: فقمت إلى غِرَارة لنا، فالتمست فيها، فوجدت فيها جِرْوَ قِثَّاء، فكسرته، ثم قرّبته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أين لكم هذا؟ "، فقلت: خرجنا به يا رسول الله من المدينة، قال جابر: وعندنا صاحب لنا نُجَهِّزه؛ ليذهب يرعى ظهرنا، قال: فجهزته، ثم أدبر يذهب في الظهر، وعليه بُردان له قد خَلُقَا، قال: فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أما له ثوبان غير هذين؟ " قال: فقلت: يا رسول الله له ثوبان في الْعَيبة، كسوته إياهما، قال: "فادعه، فمره، فليلبسهما"، قال: فدعوته، فلبسهما، ثم وَلَّى يذهب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما له ضرب الله عنقه؟ أليس هذا خيرًا؟ " فسمعه الرجل، فقال: يا رسول الله في سبيل الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في سبيل الله"، فقُتِل الرجل في سبيل الله. انتهى.