للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ: ومِنْ أبعدِ التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلامًا، وأنه وهبه له لمّا سألته الأم الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يُعلَم منه على القطع أنه كان له مالٌ غيره.

[ثانيها]: أن العطيّة المذكورة لم تُتنجّز، وإنما جاء بشيرٌ يستشير النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأشار عليه بأن لا يفعل، فترك، حكاه الطحاويّ، وفي أكثر طرق حديث الباب ما يُنابذه (١).

[ثالثها]: أن النعمان كان كبيرًا، ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع، ذكره الطحاويّ، وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضًا خصوصًا قوله: "ارجعه"، فإنه يدلّ على تقدّم وقوع القبض، والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرًا، وكان أبوه قابضًا له لصغره، فأمر بردّ العطيّة المذكورة بعدما كانت في حكم المقبوض.

[رابعها]: أن قوله: "ارجعه" دليل على الصحّة، ولو لم تصحّ الهبة لم يصحّ الرجوع، وإنما أمَره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، وإن كان الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك، فلذلك أمَرَه به، وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله: "ارجعه"؛ أي: لا تُمض الهبة المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدّم صحة الهبة.

[خامسها]: أن قوله: "أَشْهِد على هذا غيري" إذن بالإشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الإمام، وكأنه قال: لا أشهد؛ لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاويّ أيضًا، وارتضاه ابن القصّار.

وتُعُقّب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمّل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعيّنت عليه، وقد صرّح المحتجّ بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوّابه جاز، وأما قوله: إن قوله: "أَشهِدْ" صيغة إذْن، فليس كذلك، بل هو للتوبيخ لِمَا يدلّ عليه بقيّة ألفاظ الحديث، وبذلك صرّح الجمهور في هذا الموضع.


(١) كأمره -صلى الله عليه وسلم- بالارتجاع، وكقول عمرة: لا أرضى حتى تُشهد … إلخ.