قال الجامع عفا الله عنه: القول باشتراط القبض في الهبة مما يحتاج إلى دليل، فالأرجح ما ذهب إليه الأولون، من لزوم الهبة بالقول، وإن لم تُقبض، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم: هل التسوية في العطيّة بين الأولاد واجبة، أم لا؟:
ذهب طائفة منهم إلى وجوبه، وبه صرّح البخاريّ في "صحيحه"، كما سبقت الإشارة إليه، وهو قول طاوس، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وقال به بعض المالكيّة، ثم المشهور عن هؤلاء أنها باطلة، وعن أحمد تصحّ، ويجب أن يرجع، وعنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب، كأن يحتاج الولد لزمانته ودَينه، أو نحو ذلك، دون الباقين، وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار.
وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبّة، فإن فضّل بعضًا صحّ، وكُره، واستُحبّ المبادرة إلى التسوية، أو الرجوع، فحملوا الأمر على الندب، والنهي على التنزيه.
ومن حجة من أوجبه أنه مقدّمة الواجب؛ لأن قطع الرحم، والعقوق محرّمان، فما يؤدّي إليهما يكون محرّمًا، والتفضيل مما يؤدّي إليهما.
ثم اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وبعض الشافعيّة، والمالكيّة: العدل أن يعطي الذكر حظّين كالميراث، واحتجّوا بأنه حظها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات، وقال غيرهم: لا فرق بين الذكر والأنثى، وهذا هو الأرجح؛ لأن ظاهر الأمر بالتسوية يدلّ عليه، ويدلّ عليه أيضًا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، رفعه:"سوّوا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلًا أحدًا لفضّلت النساء"، أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقيّ من طريقه، قال الحافظ: وإسناده حسن.
وأجاب من حمل الأمر بالتسوية على الندب عن حديث النعمان -رضي الله عنه- بأجوبة:
[أحدها]: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، ولذلك منعه، فليس فيه حجة على منع التفضيل، حكاه ابن عبد البرّ عن مالك، وتعقّبه بأن كثيرًا من طرق حديث النعمان -رضي الله عنه- صرّح بالبعضيّة.