للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ)، وفي الرواية الثالثة: "نهى عن النذر"، وفي حديث أبي هريرة الآتي: "لا تنذروا" بصريح النهي.

قال الخطّابيّ -رحمه الله-: هذا غريبٌ من العلم، وهو أن يُنهَى عن الشيء أن يُفعَل، حتى إذا فُعل وقع واجبًا. انتهى.

وقال القرطبيّ -رحمه الله-: هذا النذر محلّه أن يقول: إن شَفَى الله مريضي، أو قَدِم غائبي فعليّ عتق رقبة، أو صدقة كذا، أو صوم كذا، ووجه هذا النهي هو أنه لَمّا وقف فعل هذه القربة على حصول غرض عاجل ظهر، أنه لم يتمحّض له نيّة التقرّب إلى الله تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ألا ترى أنه لو لم يحصل غرضه لم يفعل؟ وهذه حال البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يربي على ما أخرج، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، ثم يُضاف إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإن النذر لا يردّ من قدر الله شيئًا"، وهاتان جهالتان، فالأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صُرَاح.

وإذا تقرّر هذا، فهل هذا النهي محمول على التحريم، أو على الكراهة؟ المعروف من مذاهب العلماء الكراهة، قال القرطبيّ: والذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه الله- (١)، وهو حسنٌ جدًّا، وسيأتي بيان ما قاله العلماء في معنى النهي عن النذر تفصيلًا في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.

(وَيَقُولُ) -صلى الله عليه وسلم- ("إِنَّهُ)؛ أي: النذر (لَا يَرُدُّ شَيْئًا)؛ أي: مما قدّره الله تعالى، وفي رواية سفيان التالية: "النذر لا يقدّم شيئًا، ولا يؤخّره وفي رواية شعبة الثالثة: "إنه لا يأت بخير"، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "فإن النذر لا يُغني من القدر شيئًا وفي حديثه الآخر: "إن النذر لا يُقرّب من ابن آدم شيئًا لم


(١) "المفهم" ٤/ ٦٠٦ - ٦٠٧.