وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}[الإنسان: ٧]، قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام، والزكاة، والحجّ، والعمرة، وما افترض الله عليهم، فسمّاهم الله أبرارًا، وهذا صريحٌ في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مالٌ، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور:"البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ"، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ".
ثم نقل القرطبيّ الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من نذر أن يطيع الله تعالي، فليُطعه"، ولم يفرّق بين المعلّق وغيره. انتهى.
قال الحافظ: والاتفاق الذي ذكره مسلّمٌ، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلّق نظر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي لا نظر في ذلك، بل ما قاله القرطبيّ واضحٌ، حيث إن المعلّق في جملة الأمر بالوفاء بالنذر، فيكون واجبًا، فتأمله، والله تعالى أعلم.
ثم قال القرطبيّ: ومما يلحق بهذا النهي في الكراهة: النذر على وجه التبرّم، والتحرّج، فالأول: كمن استثقل عبدًا لقلّة منفعته، وكثرة مؤنته، فينذر عتقه تخلّصًا منه، وإبعادًا له، وإنما يكره ذلك لعدم تمحّض نيّة القربة.
والثاني: أن يقصد التضييق على نفسه، والحمل عليها، بأن ينذر كثيرًا من الصوم، أو من الصلاة، أو غيرهما مما يؤدّي إلى الحرج والمشقّة مع القدرة عليه، فأما لو التزم بالنذر ما لا يُطيقه لكان ذلك محرّمًا، فأما النذر الخارج عما تقدّم، فما كان منه غير معلّق على شيء، وكان طاعة جاز الإقدام عليه، ولزم الوفاء به، وأما ما كان منه على جهة الشكر، فهو مندوبٌ إليه، كمن شُفي مريضه، فقال: لله عليّ أن أصوم كذا، أو أتصدّق بكذا شكرًا لله تعالى.
وقد روي عن مالك كراهة النذر مطلقًا، فيمكن حمله على الأنواع التي بيّنّا كراهتها، ويُمكن حمله على جميع أنواعه، لكن من حيث إنه أوجب على نفسه ما يخاف عليه التفريط فيه، فيتعرّض لِلَوم الشرع، وعقوبته، كما قد كُره