للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لأن "من" للتبعيض، ولا يلزمه أن يُطعمه من كل ما يأكل على العموم من الأُدُم، وطيبات العيش، ومع ذلك فيستحب أن لا يستأثر على عياله، ولا يُفَضِّل نفسه في العيش عليهم.

وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- عند قوله: "فأطعموهم مِمَّا تأكلون، وألبسوهم مِمَّا تلبسون"؛ أي: من نوع ما تأكلون وما تلبسون، وهذا الأمر على الندب؛ لأن السَّيد لو أطعم عبده أدنى مما يأكله، وألبسه أقل مما يلبسه صفةً ومقدارًا لم يذمَّه أحدٌ من أهل الإسلام؛ إذ قام بواجبه عليه، ولا خلاف في ذلك فيما علمته، وإنما موضع الذمِّ: إذا منعه ما يقوم به أَوَدَهُ، ويدفع به ضرورته، كما نصَّ عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "كفى بالمرء إثْمًا أن يحبس عمن يملك قوته" (١)، وإنما هذا على جهة الحضّ على مكارم الأخلاق، وإرشادٌ إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يرى لنفسه مزية على عبده؛ إذ الكل عبيد الله، والمال مال الله، ولكن سَخَّر بعضهم لبعض، وملَّك بعضهم بعضًا؛ إتمامًا للنعمة، وتنفيذًا للحكمة. انتهى (٢).

٧ - (ومنها): منع تكليفه من العمل ما لا يطيق أصلًا، ولا يطيق الدوام عليه، والنهي للتحريم بلا خلاف، فإن كلّفه ذلك أعانه بنفسه، أو بغيره؛ لقوله: "فإن كلفتموهم فأعينوهم".

٨ - (ومنها): أنه منقبة لأبي ذرّ -رضي الله عنه-، حيث إنه امتثل أمره -صلى الله عليه وسلم-، فقد ناصف عبده الحلّة الواحدة، فلبس نصفها، وألبسه نصفها؛ امتثالًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: "ولْتُلْبِسُوهُم مما تلبسون"، قال في "الفتح": وقد جاء في سبب إلباس أبي ذرّ -رضي الله عنه- غلامه مثل لبسه أثرٌ مرفوعٌ، أصرح من هذا، وأخصّ، أخرجه الطبرانيّ من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أعطى أبا ذرّ عبدًا، فقال: "أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس"، وكان لأبي ذرّ ثوب، فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فسأله، فقال:


(١) رواه مسلم في "صحيحه" بهذا اللفظ، ورواه أبو داود بلفظ: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت".
(٢) "المفهم" ٤/ ٣٥٢.