جرى الخطابيّ، فقال: لله أن يمتحن أنبياءه وأصفياءه بالرق، كما امتحن يوسف. انتهى، وجزم الداوديّ، وابن بطال، وغير واحد بأن ذلك مُدْرَج من قول أبي هريرة، ويدل عليه من حيث المعنى قوله:"وبِرُّ أمي"، فإنه لم يكن للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ أمّ يبرها، ووجّهه الكرمانيّ، فقال: أراد بذلك تعليم أمّته، أو أورده على سبيل فرض حياتها، أو المراد: أمه التي أرضعته. انتهى.
قال: وفاته التنصيص على إدراج ذلك، فقد فصله الإسماعيليّ من طريق أخرى، عن ابن المبارك، ولفظه:"والذي نفس أبي هريرة بيده … إلخ"، وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزيّ في "كتاب البرّ والصلة"، عن ابن المبارك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، وأبي صفوان الأمويّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد" من طريق سليمان بن بلال، والإسماعيليّ من طريق سعيد بن يحيى اللَّخْميّ، وأبو عوانة، من طريق عثمان بن عمر، كلهم عن يونس، زاد مسلم في آخر طريق ابن وهب:"قال -يعني: الزهريّ-: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه؛ لصحبتها"، ولأبي عوانة، وأحمد من طريق سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه كان يسمعه يقول: لولا أمران لأحببت أن أكون عبدًا، وذلك أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"ما خلق الله عبدًا يؤدي حق الله عليه، وحق سيده إلا وفّاه الله أجره مرتين".
فعُرف بذلك أن الكلام المذكور من استنباط أبي هريرة -رضي الله عنه-، ثم استدَلُّ له بالمرفوع، وإنما استثنى أبو هريرة -رضي الله عنه- هذه الأشياء؛ لأن الجهاد، والحج يُشترط فيهما إذن السيد، وكذلك برّ الأم، فقد يُحتاج فيه إلى إذن السيد في بعض وجوهه، بخلاف بقية العبادات البدنية، ولم يتعرض للعبادات المالية، إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته، فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذن السيد. انتهى (١).
وقوله:(قَالَ: وَبَلَغَنَا) هدا من قول الزهريّ -رَحِمَهُ اللهُ- كما أسلفته عن "الفتح"
(١) "الفتح" ٦/ ٣٨٠ - ٣٨١، كتاب "العتق" رقم (٢٥٤٨).