للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله: "منها أربعة حُرُم"؛ أي: من الاثني عشر شهرًا، وأولها المحرّم، سُمي بذلك: لتحريم القتال فيه، ثمَّ صفر، سُمي بذلك: لخلوِّ مكة من أهلها فيه، وقيل: وقع فيه وباءٌ فاصفرَّت وجوههم، وقال أبو عبيد: لِصِفْر الأواني من اللَّبن، ثم الربيعان: لارتباع الناس فيهما؛ أي: لإقامتهم في الربيع، ثم جماديان، وسُمِّيا بذلك: لأن الماء جَمَد فيهما، ثم رجب، وسُمي بذلك: لترجيب العرب إياه؛ أي: لتعظيمهم له، أو لأنَّه لا قتال فيه، والأرجب: الأقطع، ثم شعبان، وسُمي بذلك: لتشعّب القبائل فيه. ثم رمضان، وسمِّي بذلك: لشدَّة الرمضاء فيه، ثم شوَّال، وسُمِّي بذلك: لأن اللقاح تَشُول فيه أذنابها، ثم ذو القعدة، سُمِّي بذلك لقعودهم فيه عن الحرب، ثم ذو الحجَّة، وسمِّي بذلك: لأن الحجَّ فيه، ويجوز في فاء ذي القِعدة وذي الْحِجَّة الفتح والكسر، غير أن الفتح في القعدة أفصح.

وسمِّيت الْحُرُم حُرُمًا: لاحترامها وتعظيمها بما خُصَّت به من أفعال البِر، وتحريم القتال، وتشديد أمر البغي والظلم فيها، وذلك: أن العرب كانت في غالب أحوالها، ومعظم أوقاتها قبل مجيء الإسلام أهل غارة، ونهب، وقتال، وحرب، يأكل القوي الضعيف، ويصول على المشروف الشريف، لا يرجعون لسلطان قاهر، ولا لأمر جامع، وكانوا فَوْضَى فَضًا (١)، من غلب سلب، ومن عز بزَّ (٢)، لا يأمن لهم سِرْب، ولا يستقر لهم حال، فلطف الله بهم أن جعل في نفوسهم احترام أمور يمتنعون فيها من الغارة، والقتال، والبغي، والظلم، فيأمن بها بعضهم من بعض، ويتصرَّفون فيها في حوائجهم، ومصالحهم، فلا يهيِّج فيها أحدٌ أحدًا، ولا يتعرَّض له، حتى إن الرَّجل يلتقي فيها بقاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له بشيء، ولا بغدر؛ بما جعل الله في قلوبهم من تعظيم تلك الأمور، ولا يبعد أن يكون أصل ذلك مشروعًا لهم من دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كالحجِّ، والعمرة، وغيرهما مما كان عندهم من شرائعهما.

وهذه الأمور من الزمان: الأشهر الحرم، ومن المكان: حَرَم مكة، ومن


(١) يقال: فوضى فضًا؛ أي: سواء بينهم، وأمرهم فضًا بينهم؛ أي: لا أمير عليهم.
(٢) أي: من غَلَب أخذ السَّلَب.