(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في القطع بجحد العارية:
قد اختلف نظر العلماء في ذلك، فأخذ بالقطع به أحمد، في أشهر الروايتين عنه، وإسحاق، وانتصر له ابن حزم من الظاهرية. وذهب الجمهور، إلى أنه لا يُقطع في جحد العارية، وهي رواية عن أحمد أيضًا.
وأجابوا عن الحديث بأن رواية مَن رَوَى:"سرقت" أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل:
فأما الترجيح، فنقل النوويّ أن رواية معمر شاذة، مخالفة لجماهير الرواة، قال: والشاذة لا يُعْمَل بها، وقال ابن المنذر في "الحاشية"، وتبعه المحب الطبري: قيل إن معمرًا انفرد بها. وقال القرطبي: روايةُ "أنها سرقت" أكثر، وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده، من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك مَن لا يُقتدى بحفظه؛ كابن أخي الزهري، ونَمَطه، هذا قول المحدِّثين.
قال الحافظ: سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يُشعر بأنه لم يقف على رواية شعيب، ويونس بموافقة معمر؛ إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر، وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه، ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين؛ إذ لا يُعرف عن أحد من المحدِّثين أنه قَرَن شعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، وأيوب بن موسى، بابن أخي الزهريّ، بل هم متفقون على أن شعيبًا، ويونس أرفع درجة في حديث الزهري، من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف، عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه، إلا لكون رواية "سَرَقت" متفقًا عليها، ورواية "جَحَدت" انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع، إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي، فقال: لم يُختَلف على معمر، ولا على شعيب، وهما في غاية الجلالة في الزهريّ، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث، ويونس، وإن كانا في الزهري كذلك، فقد اختُلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد، فدون معمر، وشعيب، في الحفظ.
قال الحافظ: وكذا اختُلف على أيوب بن موسى، كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان، ويتعيَّن الجمع، فهو أولى، من اطّراح أحد الطريقين.