٢ - (ومنها): أن فيه منقبةً عظيمةً لماعز بن مالك - رضي الله عنه -؛ لأنه استمرّ على طلب إقامة الحدّ عليه، مع توبته؛ لِيَتِمّ تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشريّ يقتضي أنه لا يستمرّ على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وقَوِي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال: لعله لم يعلم أن الحدّ بعد أن يُرْفَع للإمام يرتفع بالرجوع؛ لأنا نقول: كان له طريق أن يُبرِز أمره في صورة الاستفتاء، فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة، ويبنى على ما يجاب به، ويعدل عن الإقرار إلى ذلك.
٣ - (ومنها): أنه يستحب لمن وقع في مثل قضية ماعز - رضي الله عنه - أن يتوب إلى الله تعالى، ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد، كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز - رضي الله عنهم -، وأن من اطَّلَع على ذلك يَستر عليه بما ذكرنا، ولا يَفْضَحه، ولا يرفعه إلى الإمام، كما جرت لماعز مع أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهم -، فقد أخرج قصّته معهما مالك في "الموطّأ" عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب مرسلةً، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نُعيم بن هَزّال، عن أبيه، وفي القصّة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهزّال:"لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك"، وفي "الموطّأ" عن يحيى بن سعيد: ذكرت هذا الحديث في مجلس، فيه يزيد بن نُعيم، فقال: هزّالٌ جدّي، وهذا الحديث حقّ.
قال الباجيّ - رحمه الله -: المعنى: كان خيرًا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان سَتْره بأن يأمره بالتوبة، والكتمان، كما أمره به أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وذِكرُ الثوب مبالغةٌ؛ أي: لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك، ممن لا يَعلم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار.
وباستحباب السر جزم الشافعيّ - رحمه الله -، فقال: أُحِبّ لمن أصاب ذنبًا، فستره الله عليه، أن يستره على نفسه، ويتوب، واحتَجَّ بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -.
وقال ابن العربيّ - رحمه الله -: هذا كله في غير المجاهِر، فأما إذا كان متظاهرًا بالفاحشة، مجاهرًا، فإني أحبّ مكاشفته، والتبريح به؛ لينزجر هو وغيره.