للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ذلك يجوز لمن عَرَفَ من نفسه الصبر على المضايقة، وجزم الباجيّ من المالكية بمنع استيعاب جميع المال بالصدقة، قال: ويُكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرًا لحادث يحدث، كضيف، أو عيد، أو وليمة.

ومما لا خلاف في كراهته: مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة.

ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب.

وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيها سوء القيام على الرقيق، والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لَمْ يؤنس منه الرشد إليه، وقَسْمه ما لا ينتفع بجزئه، كالجوهرة النفيسة.

وقال السبكيّ الكبير في "الحلبيات": الضابط في إضاعة المال أن لا يكون لغرض دينيّ، ولا دنيويّ، فإن انتفيا حَرُم قطعًا، وإن وُجد أحدهما وجودًا له بال، وكان الإنفاق لائقًا بالحال، ولا معصية فيه جاز قطعًا، وبين الرتبتين وسائط كثيرة، لا تدخل تحت ضابط، فعلى المفتي أن يرى فيما تيسّر منها رأيه، وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له، فالإنفاق في المعصية حرام كله، ولا نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة، ولذة حسنة، وأما إنفاقه في الملاذّ المباحة فهو موضع الاختلاف، فظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧)} [الفرقان: ٦٧] أن الزائد الذي لا يليق بحال المنفق إسراف، ثم قال: ومن بذل مالًا كثيرًا في غرض يسير تافه عَدَّه العقلاء مضيِّعًا، بخلاف عكسه، والله أعلم (١).

وقال الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قيل: والتقسيم الحاصر فيه - أي: في إضاعة المال - الحاوي بجميع أقسامه أن تقول: إن الذي يُصْرَف إليه المال إما أن يكون واجبًا، كالنفقة، والزكاة، ونحوهما، فهذا لا ضياع فيه، وهكذا إذا كان مندوبًا إليه، وإما أن يكون حرامًا، أو مكروهًا، وهذا قليله وكثيره إضاعة وسرف، وإما أن يكون مباحًا، ولا إشكال إلَّا في هذا القسم؛ إذ كثير من الأمور يَعُدّه


(١) "الفتح" ١٣/ ٥٠٤ - ٥٠٥، كتاب "الأدب" رقم (٥٩٧٥).