للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

حقية هذه الأمور؟ بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته من كتاب أو سُنَّة، حتى يحكم بمدلولها؟ ثم قد عُرف اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور، والإنصاف والاعتساف، والتثبت والاستعجال، والطيش والوقار، والتعويل على الدليل، والقنوع بالتقليد، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من السافل، حتى يأخذ عنه أحكامه، وينيط به حَلَّه وإبرامه؟ فهذا شيء لا يُعرف بالعقل، باتفاق العقلاء، فما حالُ هذا القاضي إلَّا كَحالِ من قال فيه من قال:

كَبَهِيمَةٍ عَمْيَاءَ قَادَ زِمَامَهَا … أَعْمَى عَلَى عِوَج الطَّرِيقِ الْحَائِرِ

انتهى كلام الشوكانيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١) وهو تحقيق حسن جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في: هل كلّ مجتهد مصيبٌ؟:

قال النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ -: اختَلَفَ العلماءُ في أن كلّ مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالى، والآخر مخطئ، لا إثم عليه؛ لِعُذره، والأصح عند الشافعيّ وأصحابه أن المصيب واحد، وقد احتجت الطائفتان بهذا الحديث، أما الأولون القائلون: كلّ مجتهد مصيب، فقالوا: قد جُعِل للمجتهد أجرٌ، فلولا إصابته لَمْ يكن له أجر، وأما الآخرون، فقالوا: سمّاه مخطئًا، ولو كان مصيبًا لَمْ يسمّه مخطئًا، وأما الأجر فإنه حصل له على تعبه في الاجتهاد، قال الأولون: إنما سماه مخطئًا؛ لأنه محمول على من أخطأ النص، أو اجتهد فيما لا يَسُوغ فيه الاجتهاد، كالمجمَع عليه وغيره، وهذا الاختلاف إنما هو في الاجتهاد في الفروع، فأما أصول التوحيد فالمصيب فيها واحد، بإجماع من يُعْتَدّ به، ولم يخالِف إلَّا عبد الله بن الحسن العنبريّ، وداود الظاهريّ، فصوّبا المجتهدين في ذلك أيضًا، قال العلماء: الظاهر أنهما أرادا المجتهدين من المسلمين، دون الكفار، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ - رَحِمَهُ اللهُ - (٢).


(١) "نيل الأوطار" ٨/ ٢٧٦ - ٢٧٧.
(٢) "شرح النوويّ" ١٢/ ١٤.