لأن غيره لا يتأتى له الاستنباط المقصود بالاجتهاد، عارفًا بالدليل العقليّ، وهو البراءة الأصليّة، وبأنا مكلّفون بالتمسّك به ما لم يَرِد ناقل عنه، متوسّطًا في معرفة الآلات من اللغة، والنحو إعرابًا وتصريفًا، وأصول الفقه، والمعاني، والبيان؛ لتوقّف الاستنباط عليها، وأن يعرف من الكتاب والسُّنّة ما يتعلّق بالأحكام، ولا يُشترط حفظها، وقال السبكيّ: لا يكفي في المجتهد التوسط في العلوم المذكورة، بل لا بدّ أن تكون هذه العلوم مَلَكة له، ويكون مع ذلك قد أحاط بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوّةً، يفهم بها مقاصد الشرع، قال: وأن يعرف مواقع الإجماع، كي لا يخرقه بالمخالفة، فخَرْقه حرام، وقال الشيخ وليّ الدين: ولا يُشترط حفظها، بل يكفي معرفته بأن ما أفتى به ليس مخالفًا للإجماع، إما بأن يَعلم موافقته لعالم، أو يظنّ أن تلك الواقعة حادثة لم يَسبق لأهل الأعصار المتقدّمة فيها كلام، وأن يعرف أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والمتواتر من الآحاد، وحال الرواة جرحًا وتعديلًا، ومراتب الجرح والتعديل، ويكتفي في هذا وما قبله بالكتب المصنّفة في ذلك، والرجوع إلى أئمة هذا الشأن، ولا يُشترط معرفة تفاريع الفقه، ولا معرفة علم الكلام، ولا الحرية، ولا الذكورة، قيل: ولا العدالة.
وبالجملة فالاجتهاد مرتبة صعبة المنال، عزيزة الإدراك، لا ينالها إلا من يسّر الله سبحانه وتعالى عليه أسبابها، ولا ينبغي أن يدّعيه كلّ من انتسب إلى العلم، بل الواجب على من لم يتّصف بصفة الاجتهاد أن يقف عند حدّه، وهو أن يسأل العلماء، كما قال عز وجل:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧]، ومع هذا فليس الاجتهاد محصورًا في فئة معيّنة، ولا في عصر معيّن، كما سيأتي تحقيقه قريبًا، إن شاء الله تعالى. وإلى ما تقدّم من شروط المجتهد أشار في "الكوكب الساطع" حيث قال: