للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وافق رأيه رأيه، كما حَكَى ذلك عنه الزركشيّ، وقال: قول هؤلاء القائلين بخلوّ العصر عن المجتهد مما يُقضَى منه العجب، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم، فقد عاصر القفّال، والغزاليّ، والرازيّ، والرافعيّ من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ، واطّلاع على أحوال علماء الإسلام في كلّ عصر لا يخفى عليه مثل هذا، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم في الاجتهاد.

وإن قالوا ذلك، لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضّل به على مَنْ قَبْل هؤلاء من هذه الأمة من كمال الفهم، وقوّة الإدراك، والاستعداد للمعارف، فهذه دعوى من أبطل الباطلات، بل هي جهالة من الجهالات.

وإن كان ذلك باعتبار تيسّر العلم لمن قَبْل هؤلاء المنكرين، وصعوبته عليهم، وعلى أهل عصورهم، فهذه أيضًا دعوى باطلة، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره الله للمتأخّرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوّنت، وصارت في الكثرة إلى حدّ لا يمكن حصره، والسُّنَّة المطهّرة قد دُوّنت، وتكلّم الأئمة على التفسير، والترجيح، والتصحيح، والتجريح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومَنْ قَبْل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قُطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخّرين أيسر، وأسهل من الاجتهاد على المتقدّمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح، وعقلٌ سويّ.

وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين، إنما أوتوا من قبل أنفسهم، فإنهم لمّا عكفوا على التقليد، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسُّنّة، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه، واستصعبوا ما سهّله الله تعالى على من رزقه العلم والفهم، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسُّنّة، ولَمّا كان هؤلاء الذين صرّحوا بعدم وجود المجتهدين شافعيّة، فها نحن نوضّح لك من وُجد من الشافعيّة بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد. فمنهم: ابن عبد السلام، وتلميذه ابن دقيق العيد، ثم تلميذه ابن