الذي يأتي بالشهادة، والجملة مستأنَفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر؛ أي: قالوا له: أخبرنا، فقال: هو الذي … إلخ، (قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا") بالبناء للمفعول.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الذي يأتي بشهادته قبل أن يسأَلَها"؛ يعني به: الشهادة التي يجب أداؤها، وإن لم يُسْألَها؛ كشهادة بحقٍّ لم يحضر مستحقّه، أو بشيء يخاف ضياعه، أو فوته، أو بطلاق، أو عتق على من أقام على تصرُّفه من الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، إلى غير ذلك، فيجب على من تحمَّل شيئًا من ذلك أداء تلك الشهادة، ولا يقف أداؤها على أن تُسْأَلَ منه، فيضيع الحقّ، وقد قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق: ٢]، ولا يعارض هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيحين": "ثم يأتي من بعد ذلك قوم يشهدون، ولا يُستشهدون"؛ لأن هذا محمولٌ على أحد وجهين:
أحدهما: أنه يراد به: شاهد الزور؛ فإنَّه يشهد بما لم يُستشْهَد؛ أي: بما لم يُحَمَّله.
والثاني: أن يراد به: الذي يحمله الشَّرَهُ على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يُسْأَلَها، فهذه شهادة مردودة، فإن ذلك يدلُّ على هوى غالب على الشاهد، ولا خلاف عندنا في هذا - إن شاء الله تعالى - وما ذكرناه أحسن ما حُمِل عليه هذا الحديث.
وقد رُوي عن النَّخعيّ رحمه الله أنَّه قال: المراد بالشهادة في هذا الحديث: اليمين، واستَدَلَّ عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بقيَّة الحديث: "تَسبِق يمين أحدهم شهادته، وشهادته يمينه"، وفيه نظر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
[فرع]: لا إشكال في أن من وجبت عليه شهادة على أحد الأوجه التي ذكرناها، فلم يؤدِّها أنَّها جُرْحَةٌ، في الشَّاهد والشهادة، ولا فرق في هذا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، هذا قول ابن القاسم وغيره، وذهب بعضهم: إلى أن تلك الشهادة إن كانت بحق من حقوق الآدميين كان ذلك جُرْحَةً في تلك الشهادة نفسها خاصة، فلا يصلح له أداؤها بعد ذلك.
قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الذي يوجب جرحته: إنما هو فسقه بامتناعه من القيام بما وجب عليه من غير عُذْرٍ، والفسق يسلب أهلية الشهادة