على ذلك زمانًا إلى أن ظهر لي ما ذكرته، فتأمله، فإنه الصحيح - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: إنهم - يعني الصحابة - كانوا لا يفرّقون بين النسخ والتخصيص، إن أراد به أنهم لم ينصّوا على الفرق، فمسلَّمٌ، وكذلك أكثر مسائل علم الأصول، بل كلّه، فإنهم لم ينُصّوا على شيء منها، بل فرّعوا عليها، وعملوا على مقتضاها من غير عبارة عنها، ولا نطق بها إلى أن جاء من بعدهم، ففطِنُوا لذلك، وعبّروا عنه، حتى صنّفوا التصانيف المعروفة، وأوّلهم في ذلك الشافعيّ فيما علمناه.
وإن أراد بذلك أنهم لم يكونوا يعرفون الفرق بين النسخ والتخصيص، ولا عملوا عليه، فقد نسبهم إلى ما يستحيل عليهم؛ لثقابة أذهانهم، وصحّة فهومهم، وغزارة علومهم، وأنهم أولى بعلم ذلك من كلّ مَن بعدهم، كيف لا وهم أئمة الهدى، وبهم إلى كلّ العلوم يُقتدى، وإليهم المرتجع، وقولهم المتّبع، وكيف يخفى عليهم ذلك، وهو من المبادئ الظاهرة على ما قرّرناه في "الأصول". انتهى كلام القرطبيّ (١).
قال الجامع عفا الله تعالى: هذا الذي قرره القرطبيّ، وقبله القاضي عياض من كون النسخ هنا حقيقةً هو الأرجح عندي؛ لأن الصحابيّ أعلم بمعنى النسخ، وأفهم بمقاصد الشريعة، وقد شهد التنزيل، وجالس النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخبرنا بأن هذه الآية نُسخت بآية كذا، وجب أن نقبل قوله في ذلك، ولا نعترض عليه بما اصطلح عليه متأخرو الأصوليين من تعريف النسخ بما يتعارض مع مقاصد الصحابة.
على أن النسخ في عرف السلف يُطلق على ما هو أعم، كما سيأتي في المسألة التالية، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في بيان النسخ:
هو: لغةً: الإبطال والإزالة، ومنه نَسَخت الشمس الظل، والريح آثار