فقلّلهم بالنسبة إلى عدوهم، فكأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمّا عَلِم أنه لا نبيَّ بعده، وقدَّر في نفسه الهلاك عليه، وعلى كلّ من آمن به، ونظر إلى سُنَّة الله في العبادة التي لا تُتلقّى إلَّا من جهة الأنبياء، لزم من ذلك نفي العبادة جزمًا، والله تعالى أعلم، وهذا أحسن الأوجه، وأولاها. انتهى كلام القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١)، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ) حال كونه (مَادًّا يَدَيْه، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَة، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ) قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذا منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيامٌ بوظيفة ذلك الوقت، من الدُّعاء، والالتجاء إلى الله تعالى، وتعليم لأمته ما يلجؤون إليه عند الشدائد، والكرب الواقعة بهم، فإن ذلك الوقت كان وقت اضطرار، وشدة، وقد وعد الله المضطرّ بالإجابة، حيث قال:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل: ٦٢]؛ يعني: عن المضطرّ عند الدُّعاء، فقام بعبادة ذلك الوقت، ولا يلزم من اجتهاده في الدعاء في ذلك الوقت أن يكون ارتاب في أن الله سينجز له ما وعده به، كما ظهر مما وقع لأبي بكر - رضي الله عنه - حيث قال له:"كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك"، كما لا يلزم من دعائه في أن يدخله الله الجَنَّة، وينجيه من النار، ويغفر له ذنوبه أن يكون في شكّ من شيء من ذلك، فإن الله قد أعلمه قطعًا أنه يدخله الجَنَّة، وينجيه من النار، ويغفر له، لكنه قام بحقّ العبودية، من إظهار الفاقة، وامتثال العبادة؛ فإن الدعاء مُخّ العبادة، فقلبه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستغرق بمعرفة الواعد، وإنجاز الموعود، ولسانه، وجوارحه مستغرقة بالقيام بحقّ عبادة المعبود، فقام في كلّ جارحة بوظيفتها، ولكل عبادة بحقيقتها.
وسقوط ردائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن منكبيه أوجبه غَيْبة عن ظاهره بما وجده في باطنه، وردُّ أبي بكر - رضي الله عنه - رداء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على منكبيه بعد سقوطه أوجبه مراعاة أبي بكر - رضي الله عنه - أحوال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تتحفظ عليه محاسن آدابه، والتزامه إيَّاه، وتثبيته له بما قاله له أوجبه فرط محبته، وشفقته، وقصرُ نظره على ظاهره، مع ذهوله بما استغرقه من ذلك عن الالتفات إلى ما ذكرناه من المعاني، والأسرار التي لاحت للنبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في باطنه.