للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الاستفتاحيّة، فقد ذكر ابن هشام في "مغنيه" (١): أن "كَلّا" تكون للردع والزجر، وعليه الجمهور، وزاد غيرهم معنى آخر، ثمَّ اختلفوا فيه، فقال الكسائيّ ومَنْ تابَعه: تكون بمعنى حقًّا، وقال أبو حاتم السجستانيّ، ومن تابعه: تكون بمعنى "ألا" الاستفتاحيّة، وقال النضر بن شُميل، والفرّاء: تكون حرف جواب، بمنزلة "إِيْ"، و"نعم"، وارتضى ابن هشام من هذه الأقوال قول أبي حاتم ومتابعيه، وهو كونها بمعنى "ألا"، وهو أيضًا معنى مناسب لهذا الحديث، فتأمله، والله تعالى أعلم.

وقوله: (إِنِّي) بكسر الهمزة، (عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) قال النوويّ - رحمه الله -: يَحْتَمِل وجهين: أحدهما: إني رسول الله حقًّا، فيأتيني الوحي، وأُخبر بالمغيَّبات، كهذه القضيّة، وشِبْهها، فَثِقُوا بما أقول لكم، وأخبركم به، في جميع الأحوال، والآخر: لا تفتتنوا بإخباري إياكم بالمغيبات، وتُطروني كما أطرت النصارى عيسى - صلوات الله عليه - فإني عبد الله، ورسوله. انتهى (٢).

(هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ)؛ أي: ابتغاء مرضاته، (وَإِلَيْكُمْ)؛ أي: إلى بلدكم أيها الأنصار، (وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ) بفتح الميم مصدر ميميّ؛ أي: الحياة حياتكم؛ يعني: أنَّه يحيا عندهم، ولا ينتقل في حياته إلى غيرهم، (وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ")؛ يعني: أنَّه يموت في بلدهم، لا في بلد آخر، وهذا الظاهر أنَّه أوحي إليه بهذا، ويَحتَمِل أن يكون رجاء منه - صلى الله عليه وسلم -، والأول أقرب.

وقال النوويّ - رحمه الله -: معنى هذا الكلام أني هاجرت إلى الله، وإلى دياركم؛ لاستيطانها، فلا أتركها، ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم؛ أي: لا أَحْيَا إلا عندكم، ولا أموت إلا عندكم، وهذا أيضًا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا قال لهم هذا بَكَوْا، واعتذروا، وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حِرْصًا عليك، وعلى مصاحبتك، ودوامك عندنا؛ لنستفيد منك، ونتبرّك بك، وتهدينا الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: ٥٢]،


(١) راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" ١/ ٣٧٨.
(٢) "شرح النوويّ" ١٢/ ١٢٨.