وأما شرطُ ردّ من جاء منهم، ومنعُ من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحكمة فيهم، في هذا الحديث بقوله:"من ذهب منّا إليهم، فأبْعَدَه الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا"، ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم -، فجعل الله للذين جاءونا منهم، وردّهم إليهم فرجًا ومخرجًا - ولله الحمد - وهذا من المعجزات.
قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة، وإسلام أهلها كلّهم، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ولا يَحِلُّون بمن يعلِّمهم بها مفصّلة، فلما حصل صلح الحديبية، اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وحَقوا باهلهم، وأصدقائهم، وغيرهم، ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مفصَّلة بجزئياتها، ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوّته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرًا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خَلْق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلًا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم؛ لِمَا كان قد تَمَهّد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي، قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (٢)} [النصر: ١، ٢]. انتهى كلام النوويّ (١)، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَقَالُوا)؛ أي: الصحابة - رضي الله عنهم - (يَا رَسُولَ الله، أنكْتُبُ هَذَا؟) إنما قالوا هذا استبعادًا، واستنكارًا لهذا الشرط القاسي، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - أجابهم، فـ (قَالَ: "نَعَمْ) نكتبه، ثم زاد لهم إيضاحًا يزيل عنهم الغيظ، فقال:(إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الشأن والحال، (مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ) مرتدًّا عن الإسلام (فَأَبْعَدَهُ اللهُ) يحتَمِل