في الآية، وقد شَهِد العقل والنقل أن الله تعالى منزّه عن مماثلة الأجسام، وعن الجوارح المركّبة من الأعصاب والعظام، وما جاء في الشريعة مما يوهم شيئًا من ذلك، فهو توسّعٌ، واستعارة حسب عادات مخاطباتهم الجارية على ذلك، إلى آخر ما ذكره القرطبيّ في تأويل معنى اليمين.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي طَوَّل به القرطبيّ كلامه في تأويل معنى اليمين غير صحيح، فإن اليمين بمعنى الجارحة لا يتوهّم عاقل أنَّها المقصودة في إطلاق اليمين لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، فإن من اعتقد أن لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ذاتًا، لا تُشبه الذوات، فكذلك يعتقد أن له صفات لا تشبه الصفات، فكما لا يعتقد أن ذاته مركبة من لحم، وعظم، ونحو ذلك، كذلك لا يعتقد أن يمينه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جارحة مركبة من لحم، وعظم، وعصب، ونحوه، بلا فرق، وقد تقدّم لنا غير مرّة أن مذهب سلف الأمة، من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأهل الحديث قاطبة إثبات جميع الصفات التي وردت في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، على ظاهرها، منزّهين الله تعالى عن مشابهة خلقه له، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، فاسلك سبيلهم، فإنه الصراط المستقيم، والله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله:(وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ) جملة من مبتدأ وخبر مستأنَفة، بيّن بها كون كلتا اليدين يمينًا، لئلا يُتوهّم نقص وضعفٍ فيما أضافه إلى الحقِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وذلك أنه لمّا كانت اليمين تقابلها الشمال، وهي في المتعارف أنقص رتبة، وأضعف حركة، وأثقل لفظًا، فأزال توهّم مثل هذا في حقّ الله تعالى، فقال:"وكلتا يديه يمين"؛ أي: كلّ ما نُسب إليه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ميمون مبارك، لا يُتوهّم فيه نقص، ولا قصور، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: "وكلتا يديه يمين" هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نُطلقها على ما جاءت، ولا نُكيّفها، وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب، والأخبار الصحيحة، وهو مذهب أهل السُّنَّة، والجماعة.
قال: وقوله: "عند الله" خبر "إن"؛ أي: إن المقسطين مقرّبون عند الله تعالى، و"على منابر" يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، أو حالًا من الضمير المستقرّ في الظرف، و"من نور" صفة "منابر"، مخصّصة لبيان الحقيقة، و"عن