للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

خير من طويل الزمان، وكبير المكان في الدنيا؛ تزهيدًا وتصغيرًا لها وترغيبًا في الجهاد؛ إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه، وأنفق ماله.

وقال غيره: معنى خير من الدنيا: ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا، وقيل: خير من أن يتصدق بما في الدنيا إذا مَلَكها، وقيل: إذا مَلَك ما في الدنيا، وأنفقها في وجوه البرّ والطاعة غير الجهاد.

وقال القرطبيّ: أي: الثواب الحاصل على مَشية واحدة في الجهاد خير لصاحبه من الدنيا، وما فيها لو جُمعت له بحذافيرها، وهذا كما قال في الحديث الآخر: "وموضع قوس أحدكم، أو سوطه في الجنّة خير من الدنيا، وما فيها"، وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو على ما استقرّ في النفوس من تعظيم مُلْك الدنيا، وأما على التحقيق فلا تدخل الجنّة تحت أفعل، إلا كما يقال: العسل أحلى من الخلّ، وقد قيل: إن معنى ذلك - والله أعلم - أن ثواب الغَدوة والروحة أفضل من الدنيا وما فيها لو ملكها مالكٌ، فأنفقها في وجوه البرّ والطاعة غير الجهاد، وهذا أليق، والأول أسبق. انتهى كلام القرطبيّ (١).

وقال العينيّ: والظاهر أنه لا يَختصّ ذلك بالغدوّ والرواح من بلدته، بل يحصل هذا حتى بكل غدوة، أو روحة في طريقه إلى الغزو، وقال النوويّ: وكذا غدوة وروحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة، وروحة في سبيل الله. انتهى (٢).

وقال في "الفتح": قال ابن دقيق العيد: قوله: "خير من الدنيا وما فيها" يَحْتَمِل وجهين:

أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيَّب منزلة المحسوس؛ تحقيقًا له في النفس؛ لكون الدنيا محسوسةً في النفس، مستعظمةً في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذَرّةً مما في الجنة.

والثاني: أن المراد: أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي


(١) "المفهم" ٣/ ٧٠٩ - ٧١٠.
(٢) "عمدة القاري" ١٤/ ٩٢.